طالب مدير الهيئة العامة للآثار والمتاحف بوادي حضرموت، مدير قصر سيئون، حسين العيدروس، بضرورة ترميم القصر الذي يعد أحد أقدم المباني الطينية حول العالم.
وأوضح العيدروس، في حديثه لـ”إرم نيوز”، أن “قِدم المبنى الطيني وجملة الأخطار المحيطة به، يجعلانه بحاجة ماسة إلى صيانة دورية عامة وجزئية متواصلة، يتم من خلالها إضافة تدعيمات واستحداثات تسند البناء الطيني الضخم، الذي يتأثر كثيرًا بالأمطار”.
وأكد العيدروس عدم وجود أي ميزانية خاصة بعملية صيانة قصر سيئون على الإطلاق، “وما نقوم به نحن من جهد لا يعدو كونه جهدًا شخصيًا، بحكم استغلالنا لجزء من هذا المبنى كمتحف سيئون للآثار، ونأمل أن تشاركنا الوزارة همّ حماية وصيانة هذا المبنى، ونجدها فرصة لمطالبة رئيس الوزراء بأن يخصص لنا جزءا من الاهتمام وفقدانه لا شك سيكون خسارة كبيرة على كل البلد بشكل عام”.
وقال العيدروس إن هناك أعمال ترميم متواضعة يشهدها المبنى كل عام، إلا أن الترميمات الشاملة والواسعة لا تأتي إلا بعد مرور عدة أعوام، وبحسب إمكانيات الجهات الممولة، إذ أسهمت بعض منظمات المجتمع المدني والجهات الأخرى إضافة إلى السلطة المحلية بالمحافظة، خلال الأعوام الخمسة الماضية، بنحو 3 مشاريع ترميم، توزعت بين ترميم الأساسات وصيانة أجزاء من السقوف والطلاء الخارجي، واستبدال بعض الأعمال الخشبية مثل النوافذ والمداخل.
وأوضح العيدروس أنهم ينتظرون خلال الفترة المقبلة، تدخلا من قبل منظمة “يونيسكو” لترميم سور القصر الخارجي الذي تأثر مؤخرًا، مشددًا على أهمية موافقة السلطات اليمنية المختصة على إنشاء هيئة خاصة لحماية مثل هذه المباني التاريخية.
القصر الرمز
فوق تلة صخرية مرتفعة، في قلب مدينة سيئون، مركز مديريات وادي وصحراء محافظة حضرموت، يبدو قصر “سيئون” المنيع على مدى أكثر من 5 قرون مضت، منهكًا هذه المرة على غير عادته، يشكو إهمال السلطات اليمنية المنشغلة بالحرب الجارية في البلد منذ 8 أعوام، في وقت تزداد فيه تهديدات انهياره بفعل اتساع رقعة التشققات وغياب عمليات الصيانة بأحد أقدم المباني الطينية حول العالم.
وعلى مدى القرون الماضية، أظهر قصر “الكثيري” أو ما بات يعرف بقصر “سيئون” حاليًا، تحديا وكبرياء، صامدا في وجه جملة من العوامل الطبيعية، يتوشح الإبداع المعماري الفريد والمتناسق، كواحد من بين أهم المعالم التراثية في البلد، مزهوا باعتباره تحفة هندسية وأثرية، تروي حكاية حقب تاريخية تأبى الاندثار من حضارة اليمن القديم.
وتعددت الروايات التاريخية حول فترة تأسيس البناء الطيني الضخم، إذ يربطه البعض ببداية ظهور السلطنة “الكثيرية” في وادي حضرموت (1379- 1967م)، التي امتد نفوذها حتى “ظفار” العمانية، فيما يقول مؤرخون يمنيون إنه تأسس كحصن يحمي مدينة سيئون، خلال فترة قديمة تسبق الدولة الكثيرية التي استخدمته لاحقا كمقر لسلطتها، وقامت بتوسعته وتحديثه إلى أن أصبح كما هو عليه اليوم.
مراحل متعددة
ويتابع العيدروس، في حديثه لـ”إرم نيوز”، أن مرحلة تأسيس القصر تعود إلى حقبة زمنية ما من القرن العاشر هجريًا (1494 – 1590م)، حينما استغله السلطان بدر بن عبدالله الكثيري، المعروف بأبي طويرق، كمقر لحكمه عام 922 هـ تقريبًا (1516م)، وفقًا للمصادر التاريخية، إلا أن طراز البناء الذي استغرق 15 عامًا، يشير إلى احتمالية أن تكون عملية إنشائه أقدم من ذلك بفترة طويلة.
ومرت عملية بناء قصر “سيئون” المتناسق هندسيًا، على عدة مراحل زمنية متتابعة ولم يبن دفعة واحدة، إذ تعاقب سلاطين الدولة “الكثيرية” على تجديده وإضافة مرافق وملحقات ومنافذ جديدة، “خاصة أن طابع البناء الطيني يتطلب بناءه بشكل تدريجي، كما لا يمكن له الصمود دون ترميم وصيانة مستمرة، نتيجة تأثّره بمياه الأمطار غالبًا، فضلا عن ضخامة هذا القصر وتعدد طوابقه، ما يؤثر على جدرانه ويؤدي إلى تشققها”، بحسب العيدروس.
ويتوسد القصر التاريخي الذي سمي قديمًا بـ”الحصن الدويل”، على مساحة تصل إلى 5460 مترًا مربعًا، من ربوة صخرية منحته أفضلية الإطلالة التي تعددت مع ارتفاع المبنى إلى قرابة 34 مترًا، في موقع استراتيجي مطل على مدينتي “شبام” غربًا و”تريم” شرقًا، إلى جانب إشرافه على مختلف اتجاهات مدينة سيئون.
يتكون القصر من 5 طوابق تحتوي على 41 غرفة كبيرة، و55 غرفة متوسطة وصغيرة الحجم، تربط طوابقه 4 سلالم، 3 منها متصلة بمداخله الجنوبية والشرقية والشمالية، وسلم من الجهة الغربية، متصل بالسلم الجنوبي، ناهيك عن ملاحقه التي تجمعها ساحة كبرى محاطة بسور خارجي.
ويشير مدير هيئة الآثار بوادي حضرموت، مدير القصر، إلى أن التصميم الهندسي الأولي للمبنى، أسس حصنًا منعيًا يهدف إلى حماية المدينة منذ القرون الهجرية الأولى، قبل أن يحوله السلطان عبدالله أبو طويرق، في القرن العاشر هجريًا، إلى مقر لسلطته السياسية، بعد انتقال سلطة “آل كثير” من منطقة “بور” الواقعة في الجهة الشرقية، على الطريق الرابط بين سيئون – تريم، التي كانت عاصمة أولى للدولة الكثيرية قبل القرن العاشر هجريًا.
وأضاف العيدروس أن “هذا البناء لم يكن الوحيد في حضرموت وقتئذ، وهو ما جعله يستلهم طرازه المعماري من مبان دفاعية أخرى، كانت منتشرة على امتداد مناطق وادي حضرموت، إضافة إلى امتزاجه بطرز معمارية خارجية، على مر الفترات اللاحقة”.
اختلاف الوظائف
ويمتاز قصر “سيئون” عن غيره من القصور المنتشرة في وادي حضرموت، أو المناطق الأخرى من الجزيرة العربية وغيرها، وفقا للعيدروس “بضخامة البناء وحسن التنسيق الجمالي، فضلا عن تلبيته لحاجة السكن المعيشي اليومي لعدد كبير من الناس، إذ تتوفر فيه بئر للماء ومغتسلات وبرك، وأماكن لخزن الطعام وغيرها، وغرف للعاملين فيه، وأخرى لوسائل النقل حينها كالخيول أو الحمير، ناهيك عن ميزاته المعمارية كالتهوية الداخلية للغرف والممرات من خلال ما يعرف بالشمسة، إضافة إلى الإبداع المعماري في تصريف المياه المستخدمة أو المياه الساقطة من الأمطار بواسطة ممرات خاصة لا تبدو خارجة أو على واجهات المبنى”.
وذكر المؤرخ اليمني، جعفر محمد السقاف، في حوار صحفي أجري معه قبل عدة أعوام، أن المراحل الأولى من بناء القصر، جسدت تشكيلات وزخارف فنية، بعضها يمنية وأخرى تأثرت بالفن المعماري الماليزي، إذ تظهر بعض الصور القديمة للقصر، أشكال النجمة السداسية والشمعدان اليهودي والهلال، “لأن الفن المعماري اليمني يعكس الديانات، كاليهودية والمسيحية ثم الديانة الإسلامية”.
وكما هي تقلبات المراحل التاريخية المتعددة، تنوعت وظائف قصر “سيئون” واستخداماته بحسب معاصرته لكل مرحلة، فبعد إنشائه كحصن يحمي المدينة من أطماع الأعداء، أصبح مقرًا للسلطة خلال فترات السلطنة الكثيرية الثلاث حتى العام 1967م، مرورًا بتحوله لاحقًا إلى قصر “الثورة” واستخدامه كمركز للشرطة ومقر للمؤسسات الأمنية، وصولًا إلى الفترة التي تلت تحقيق الوحدة اليمنية في عام 1990م، والتي بات خلالها يضم عددًا من مكاتب مؤسسات الدولة، قبل أن تغلق أجزاء منه وتصبح الأخرى مكاتب للهيئة العامة للآثار والمتاحف بوادي وصحراء حضرموت، وتتحول الأخرى منه إلى متحف “سيئون للآثار”، حتى الآن.
الهوية الحضرمية
ويعتقد الباحث التاريخي، أحمد باعديل، في حديثه لـ”إرم نيوز”، أن لقصر سيئون ارتباطا وثيقا ومباشرا بالهوية الحضرمية، “فهو يمثل الهوية والشموخ والحضارة، ويشكل عمقا تاريخيًا لأبناء حضرموت، إضافة إلى كونه معلمًا تراثيًا في مواقع التراث الحضرمي واليمني والعربي، بل والعالمي”.
وقال باعديل إن “بقاء هذا المبنى طوال الفترة الماضية، ومقاومته لكل عوامل التعرية وتقلبات المناخ التي تشتهر بها حضرموت، منذ إنشائه قبل آلاف السنين، يجعله رمزًا للتحدّي والصمود”.
وأشار إلى كونه دليلا واضحا على التطور الحضاري العمراني الطيني، في هذه البقعة من العالم، “التي انفردت وتميزت عن جميع مناطق العالم، إلى اليوم”.
مخاوف من الاندثار
وفي ظل استمرار الحرب اليمنية، وسوء الأحوال الاقتصادية في البلد الذي يشهد أكبر أزمة إنسانية في العالم، وفقًا للأمم المتحدة، يبقى قصر سيئون الطيني، كغيره من المعالم الأثرية اليمنية، يعاني من استمرار الإهمال الحكومي، وغياب أعمال الصيانة والترميمات، ما يبقيه عرضة للانهيار والاندثار، بفعل تزايد التشققات وهطول الأمطار الغزيرة وسط حالة التغيرات المناخية وظروفها القاسية، كما حدث من انهيار لجزء كبير من السور الخارجي للقصر، الشهر الماضي، عقب أسابيع من استغاثات الهيئة العامة للآثار والمتاحف بوادي حضرموت، لإنقاذه قبل وقوعه.