بقلم / د. عيدروس نصر
لا توجد عبارة من عبارات اللغة العربية تعرضت للاستهلاك والابتذال مثلما تعرضت له عبارة “الجيش الوطني” في اليمن، فقد تحول هذا المسمى إلى ما يشبه الطوطم الأسطوري الذي لا تسمع إلا اسمه ولكنك ما إن تحاول العثور على جسمه أو تلمس شكله ولونه حتى تكتشف أنك تطارد سراباً لا وجود حقيقي له على الأرض.
كان كاتب هذه السطور ذات يوم من أيام العام 2015م وفي ذروة اجتياح الحوثيين وشركائهم لكل محافظات الشمال وبعض محافظات الجنوب، كان ضيفا على إحدى القنوات العربية الداعمة (جداً جداً ) للشرعية، وكان الحديث عن إنجازات “الجيش الوطني”، وحينها قلت للمذيعة أن عبارة “الجيش الوطني” أكذوبة عن شيء لا وجود له وأن المقاومة التي تنتشر في مأرب والجوف ومناطق متفرقة في تعز وإب (حينها) هي عبارة عن جماعات قبلية لا تخضع لأي جهة حكومية ولكنها تتلقى توجيهاتها من قياداتها القبلية وقبل هذا من ضمائرها الوطنية وأنفتها وكبريائها.
قاطعتني المذيعة بحجة أن الصوت غير واضح واعتذرت عن مواصلة الحوار، ومع إنني لست متهافتاً على الظهور على القنوات الفضائية فقد كانت تلك آخر استضافة لي على تلك القناة وشقيقاتها.
* * *
كان وزير الدفاع اليمني قد قال بأن 30% من قوات الجيش هي الموجودة في المعسكرات (ولم يقل في الجبهات) بينما 70% من أفراد تلك القوات “يلوون في الشوارع”، وحيث أن هذا التصريح قد أثار ضجةً كبيرة في الأوساط الإعلامية والسياسية، فقد استدرك نفس الوزير وفي مقابلة ليست بعيدة مع إحدى القنوات اليمنية المهاجرة محاولاً أن يداري ذلك الموقف بالتبرير أن كل هؤلاء بدون مرتبات وهو ما يجعلهم يذهبون للبحث عن مصدر عيش يعيلون منه أسرهم، وهو تبرير يمكن تفهمه(!!)، لكن الوزير لم يقل لمتابعيه لماذا أفراد الجيش بدون مرتبات بينما يتقاضى هو وزملاؤه ونظراؤهم بما في ذلك أولادهم وأقربائهم مرتباتهم بعشرات الآلاف من الدولارات وبصورة منتظمة ودونما أي انقطاع يذكر.
وفي سياق الرد على سؤال آخر قال نفس الوزير “لم يكن معنا أصلاً جيشاً ولكنها مجاميع تم استقطابها وإشراكها في بناء الجيش الجديد، الذي هو في طور النشأة والتكوين”، وهو نفس التعبير الذي قلناه قبل 7 سنوات، لكنه هذه المرة يأتي على لسان الرجل الأول في “الجيش الوطني”.
وقد برر الوزير كلامه هذا بأن الجيش السابق تفتت بين جماعات تخضع للحوثيين، وأفراد وقادة آخرين تركوا معسكراتهم وفضلوا البقاء قي بيوتهم والبعض نزح خارج البلاد، . . . وملخص هذا الكلام أن الجيش الحالي (إذا جازت تسميته “جيشا”) هو عبارة عن افراد وضباط تم انتقائهم من قبل المتحكمين في صناعة القرار السياسي للسلطة الشرعية، وهم معروفون ولا يحتاج تعريفهم إلى عبقرية آينشتاين.
* * *
لندع هذا الأمر جانبا ونعود بالذاكرة إلى أيام أعادة التموضع للقوات الموجودة في الساحل الغربي منذ أسابيع، وحجم الهجمة الإعلامية التي قوبلت بها من قبل قنوات إسطنبول وشقيقاتها، وقد قدمت تلك القنوات عملية “إعادة التموضع” هذه، خدمة مجانية “قدمتها الإمارات للحوثيين” في إطار اتهام دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بأنها تسعى لتسليم اليمن للحوثيين كما يدعي القائمون على تلك القنوات، . . . لكن ما إن بدأت تلك القوات في تحقيق انتصارات غير متوقعة في التوغل في مناطق سيطرة الحوثيين جنوبي محافظة الحديدة وغربي محافظتي تعز وإب حتى راحت تلك الوسائل الإعلامية تتحدث عن الانتصارات الساحقة التي يحققها “الجيش الوطني” و(المقاومة الوطنية) في الساحل الغربي، وقد جاءت إضافة عبارة (والمقاومة الوطنية) تواضعاً مصطنعاً من تلك القنوات حتى لا تحتكر الانتصار لأحبابها “اللي ما هلُّهمش”.
اليوم وبعد الانتصار الخاطف الذي حققته قوات العمالقة الجنوبية والنخبة الشبوانية بتحرير مديرية عسيلان من سيطرة الجماعة الحوثيين سارعت نفس القنوات ونفس المواقع الإعلامية إلى حشر “الجيش الوطني” في صناعة هذا الانتصار، مصممةً على أن هذا “الجيش الوطني” كان شريكاً في تحرير مديرية عسيلان من القوات الحوثية.
ويعلم الجميع أن “الجيش الوطني” إذا ما كان هناك جيشٌ حقاً، هو من سلم مديريات عسيلان وبيحان وعين، مثلما سلم من قبل فرضة نهم ومحافظة الجوف ومأرب ومديريات قانية والعبدية في البيضاء وجبل مراد والجوبة مؤخراً للجماعة الحوثية.
وباختصار أن “الجيش الوطني” لا يحضر إلا عند الانتصارات التي يحققها سواه أما عند الهزائم التي يصنها بمهارة فائقة فإنه يتوارى ويتبرأ منها وينسبها للأهالي الذين يقاتلون بأسلحتهم وإمكانياتهم الشخصية والقبلية، وغالبا ما يبدو متعايشا مع جماعة (الحوثيين)-إخوانه في الرضاعة.
ليت النافخين في بالونة “الجيش الوطني” يرحمون هذه العبارة من كثرة الاستهلاك والابتذال، فقد حولوها إلى ما يشبه الخرقة البالية المهترئة التي لم تعد تصلح للاستعمال لأي غرض، بعد أن استنفد مستخدموها كلَّ ما كانت تعبر عنه من مضمون وكلَ ما كلنت تتزين به من مظاهر برَّاقة.