نداء نيوز – متابعات
فيما عرف بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني، أعلنت الأطراف، بمباركة المملكة العربية السعودية، عن نزع سلاح جميع الميليشيات الوطنية وغير الوطنية، باستثناء “حزب الله”.
عرف ذلك اصطلاحاً بـ “اتفاق الطائف”، وقد تم بوساطة سورية-سعودية في مدينة الطائف السعودية، 22 أكتوبر 1989، لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بعد أكثر من عقد ونصف على اندلاعها، وسُمح لحزب الله حينها بالاحتفاظ بسلاحه، بوصفه “قوة مقاومة”، وليست “ميليشيا” لمحاربة إسرائيل في الجنوب.
حدث ذلك إيماناً من المملكة العربية السعودية بثوابت القضية الفلسطينية، التي كانت ولا زالت تعدّها الرياض قضية العرب المركزية، التي تتمركز حول الصراع العربي الإسرائيلي، وحق الشعب الفلسطيني في قيام دولته الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. فما الذي تغيّر منذ ذلك الحين؟
جرت مياه كثيرة في أنهار المنطقة العربية، بينما جفت ينابيع أنهار أخرى، إلى جانب ما شهدناه من زلازل وعواصف وأعاصير وحتى براكين، لا زالت حمم بعضها تكوي الشعوب حتى اللحظة.
في عام 1997، تأسس في الولايات المتحدة الأمريكية، “بيت الخبرة” Think Tank، الذي حمل لافتة “مشروع القرن الأمريكي الجديد”، ومقره العاصمة الأمريكية واشنطن. وكان الهدف المعلن من إنشائه “تطوير القيادة الأمريكية للعالم”، وجاء في تقرير “إعادة بناء دفاعات أمريكا: الاستراتيجيات والقوى والموارد لقرن جديد”، نقلاً عن إعلان المبادئ الصادر عن المشروع، عام 1997، والذي وقّع عليه بعض من المسؤولين في إدارات أمريكية متلاحقة، من بينهم، إليوت أبرامز، ديك تشيني، إليوت كوهين، دونالد رامسفيلد، بول وولفويتز، أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن “تسعى للحفاظ على موقعها في القيادة العالمية بزيادات كبيرة في الإنفاق الدفاعي”، وتعزيز “الحرية السياسية والاقتصادية في الخارج”، حيث تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تحدياً “لتشكيل قرن جديد يلائم المبادئ والمصالح الأمريكية”. كما قال التقرير إن على الولايات المتحدة تعزيز علاقاتها مع حلفائها “الديمقراطيين”، و”تحدي الأنظمة المعادية لمصالحنا وقيمنا”، والحفاظ على “نظام دولي صديق لأمننا وازدهارنا ومبادئنا”.
بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ، وفي مقطع فيديو حول مناقشة كتابه “حان وقت القيادة” الصادر عن دار نشر “بيلغريف ماكميلان” نيويورك 2007، بنادي الكومونولث بكاليفورنيا، صرح الجنرال الأمريكي، كلارك ويسلي، الذي أمضى 34 عاماً في الجيش الأمريكي، وحصل على العديد من الأوسمة العسكرية، ووسام الحرية الرئاسي، بأنه قام بزيارة وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” بعد عشرة أيام من وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وقابل، بعد لقائه وزير الدفاع آنذاك، دونالد رامسفيلد، أحد ضباط هيئة الأركان المشتركة، الذي أعلن له عن أوامر لديه بمهاجمة العراق، دون أن يعلم السبب، ودون أن يكون هناك أي أدلة تربط بين هجمات سبتمبر وصدام حسين، لكنه قال باعتقاده أن قيادة الولايات المتحدة الأمريكية تظن أن “مهاجمة بعض الدول” سيجعلها “تبدو قوية”، واستشهد بالقول المأثور: “إذا كانت المطرقة هي الأداة الوحيدة لديك، فسترى كل المشكلات مسامير”.
يتابع ويسلي بأن الولايات المتحدة الأمريكية وجهت ضرباتها آنذاك إلى أفغانستان، لكنه حينما عاد إلى هيئة الأركان المشتركة في “البنتاغون” بعد ستة أسابيع، وقابل نفس الضابط، سأله: لماذا هاجمتم أفغانستان بدلاً من العراق؟ ألم تقل إننا سنهاجم العراق؟
فأجابه الضابط وهو يريه ورقة كانت على مكتبه: “إن الأمر أسوأ من ذلك. جاءتني للتو مذكرة من مكتب وزير الدفاع بشأن الهجوم على 7 دول وتدمير حكوماتها خلال 5 سنوات. سنبدأ بالعراق ثم ننتقل إلى سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران”.
كان ذلك منذ أربعة عشر عاماً بالتمام والكمال. فهل يمكننا الآن الربط بين ما يحدث الآن على الساحة السياسية العربية، من صراعات وأزمات وكوارث إنسانية، وبين ما صرح به ويسلي آنذاك؟ وهل نفهم الآن أبعاد رد الفعل المبالغ فيه من قبل دول خليجية على تصريحات وزير الإعلام اللبناني، قبل أن يصبح وزيراً، على الرغم من تأكيده على أن ذلك لم يكن سوى رأي شخصي لا يمثّل توجّهاً لحكومة رئيس الوزراء المسمّى حديثاً أو الدولة اللبنانية من قريب أو من بعيد، وهل نفهم الآن أن تغيير “القرداحي” أو “س” أو “ص” من الوزراء لن يغيّر من سياسة الرياض تجاه الأزمة اللبنانية، أو تجاه “حزب الله”. وهل نفهم الآن لماذا تتعثر أي جهود للتقارب ما بين المملكة العربية السعودية وإيران، ومغزى شيطنة إيران بما في ذلك الملف النووي الإيراني، وربطه بـ “سلوك إيران في المنطقة” والحديث المستمر عن”أذرع” إيران و”خططها التوسعية” في بلدان الشرق الأوسط؟
إن واشنطن تعتبر أن عدم سيطرتها الكاملة على الشرق الأوسط، بعد انسحابها من أفغانستان، بمثابة انهيار لمشروع “القرن الأمريكي الجديد”، و”الهيمنة القطبية” على العالم بأسره. وقضايا الأزمة السورية، ورغبة واشنطن، من خلال عقوبات “قيصر”، وغيرها من سبل خنق الاقتصاد السوري، واللبناني، ومنع الوقود من الوصول إلى لبنان، وكذلك ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من أنشطة خبيثة في المحيط الروسي، ما بين محاولات ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وافتعال ثورة ملونة في بيلاروس، وبعض المحاولات البائسة لخلق أجواء متوترة داخل روسيا، كل ذلك ليست سوى علامات احتضار للمشروع الأمريكي المذكور، الذي يستخدم جميع إمكانياته، وإمكانيات حلفائه في الشرق الأوسط لتوجيه ضربة لأحد “أذرع” إيران في المنطقة، “حزب الله”، من خلال خنق وابتزاز واستخدام ملايين المواطنين الأبرياء في سوريا ولبنان كدروع بشرية، استمراراً لسياسة العقوبات والحصار الاقتصادي التي يتبعها الغرب، تحقيقاً لما يظنه “أهداف الحرية والديمقراطية”، وتعزيز العلاقات مع “الحلفاء الديمقراطيين”، و”تحدي الأنظمة المعادية”، والحفاظ على “نظام دولي صديق”.
ولكن، على الجانب الآخر، تجدر الإشارة هنا إلى المستوى الرفيع من التحلي بالمسؤولية والدبلوماسية والحكمة والصبر في التعامل مع الأزمة من جميع القوى اللبنانية، بمحاولتها نزع فتيل الأزمة، ووأدها في مهدها، وعدم السماح بأي صدامات عرقية وطائفية. وهو المتوقع من شعب ذاق مرارة وويلات الحرب الأهلية، إلا أن ما نأمله الآن أن يتفهم الجميع أن الخلاف ليس سوى خلاف بين أخوة، يتحدثون نفس اللغة، ويشتركون في التاريخ والثقافة والبقعة الجغرافية ويجابهون نفس المصير، ويتطلعون إلى نفس الآمال، ويتحدون تحت مظلة جامعة الدول العربية، التي ننتظر منها أن تضطلع بدور هام في حلحلة الأزمة الراهنة، وإصلاح ما دب من خلافات في الأسرة العربية، دون الحاجة إلى التدخلات الأمريكية والإيرانية والفرنسية، فما تعلمناه دائماً في تقاليدنا العربية أن كبار العائلة هم من يحلّون كبريات المشاكل وقضايا الأسرة الواحدة.
لا يجب علينا أن ننسى أن ملف الصراع العربي الإسرائيلي لم ينته بعد، ولا زلنا بحاجة لـ “محور المقاومة”، دون أن يتغوّل على المكونات السياسية الأخرى داخل المجتمع اللبناني، ودون أن تصبح “المقاومة” اسماً لا فعلاً، وفي الداخل لا في الخارج، ولا تزال المملكة العربية السعودية عند إيمانها بثوابت الأمة العربية، ورؤيتها الراسخة بعدم التطبيع مع العدو الصهيوني طالما كانت الأرض محتلة، والاستيطان ماضٍ دون رادع يردعه، وفي نهاية المطاف لابد وأن تعي منطقتنا ما يعنيه الدرس الأفغاني على مدار عقدين من الزمان.
لا بد كذلك من أن ندرك عمق ما تعرضت له منطقتنا من زلازل وتوترات وأزمات سياسية خلال العقد الأخير من الألفية الجديدة، وأن نفهم معنى “المصير المشترك” للأمة العربية بأسرها، ولا أشك للحظة أن النخب السياسية في بلدان منطقة الخليج تدرك تماماً خطورة ما يحدث في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بوصفه تهديداً خطيراً للأمن القومي لتلك البلدان، حتى ولو لم تشترك معها في حدود أو مساحات جغرافية، فالجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
في روسيا، نعتمد في سياستنا الخارجية دائماً مبادئ احترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لذا نحرص على التواصل مع جميع الأطراف اللبنانية، وهي حريصة كل الحرص على الحفاظ على الحكومة اللبنانية الحالية، التي تشارك فيها جميع القوى السياسية اللبنانية، وسوف تستقبل موسكو، في النصف الثاني من الشهر الجاري، وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بو حبيب، وهي تدعم جهود الرئيس، ميشال عون، ورئيس مجلس الوزراء، نجيب ميقاتي، للحفاظ على الحكومة الحالية بأي شكل من الأشكال، كما يتم العمل الآن على بحث سبل التعاون ومساعدة لبنان في صمودها أمام كل محاولات اختلاق الفتن، وشيطنة بعض الأطراف، وإدخال البلاد في نفق مظلم لا تحمد عقباه.
أعاود التأكيد على أن موسكو تثمّن عالياً المسؤولية الرفيعة التي تتحلى بها القيادة السياسية في لبنان، وحرصهم على وحدة الصف، ونأمل أن تتمكن الدول العربية ممثلة في الجامعة العربية من لعب دور في تلطيف الأجواء ما بين دول الخليج وسوريا ولبنان وإيران، لما لذلك من أهمية في مساعدة الشعوب لتخطي أزماتها، ومنع انزلاق المنطقة إلى الفوضى.
الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب