كتب / ثابت حسين صالح
شكلت ثورة 14 أكتوبر 1963م المنتصرة والمُنجزة لمهامها النضالية في 30 نوفمبر 1967م بإعلان الاستقلال الوطني الناجز وقيام “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” ثورة حقيقية شاملة بكل معنى الكلمة , لأنها غيرت حياة المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً بصورة جذرية وشاملة . وعلى أنقاض عشرات السلطنات والمشيخات والإمارات الهزيلة , أقامت دولة مركزية قوية مهابة قائمة على أساس النظام والقانون. وحققت هذه الثورة خلال 23 عاما (1967-1990) انجازات ونجاحات ملموسة لا يمكن الاستهانة بها أو نسيانها أو نكرانها .
غير أن هذه الثورة العظيمة لم تحظ بما تستحقه من اهتمام ومتابعة وبحث ودراسة من قبل المختصين والجهات المعنية بالتوثيق والتاريخ . حيث من المتعذر أن يجد القارئ أو الباحث ما يشبع رغبته ويلبي حاجته للقراءة المسهبة عن هذه المرحلة التاريخية الهامة.
أما المحاولات الجريئة والناقدة لكتابة التاريخ فقد كانت تصطدم بهجمات شرسة من قبل دعاة التهم الجاهزة والتي كانت تعبر عن ضيق فكري وسياسي بالرأي الآخر وتجاهل صارخ للعقل والمنطق اللذان يتمسكان بحقائق التاريخ ويرفضان الأحكام الجاهزة والمفاهيم الجامدة.
والحق أن الكتابة عن تاريخ ثورة مضى من عمرها اربعة وخمسون عاماً وبالذات لمن لم يعايش أحداث هذه الثورة , مسألة غاية في الصعوبة والمسؤولية .
ومع ذلك سنحاول جاهدين ما أعاننا الله واستطعنا من البحث والتحليل أن نشير إلى أهم السمات والخصائص التي ارتبطت بنشوء وتطور وانتصار ثورة 14 أكتوبر والدلائل والدروس المستفادة من هذه الثورة الجديرة بالبحث والتحليل العميقين .
الكفاح المسلح
كان أسلوب الكفاح المسلح والمنظم هو الميزة البارزة لهذه الثورة وهو الأسلوب الذي توصلت إليه الحركة الوطنية في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي – القرن العشرين , بعد أن أثبتت تجربة النضال السلمي حينها عدم جدواها في القيام بمهام التحرر الوطني , بسبب الطبيعة الاستعمارية العدوانية للمستعمر البريطاني وهي الطبيعة التي تميز كل المستعمرين الغاصبين في كل زمان ومكان .
مع بداية ستينيات القرن العشرين أصبحت الظروف الموضوعية إلى جانب الظروف الذاتية – المتمثلة بقيام الجبهة القومية ونشوء الحالة الثورية – مهيأة للبدء بثورة مسلحة منظمة لتحرير الجنوب المحتل – “الجنوب العربي” – .
وفي مايو 1963م تشكلت الجبهة القومية من فرع حركة القوميين العرب في الجنوب وست تنظيمات سياسية أخرى .
شكل الصدام المسلح الذي جرى في منطقة ردفان بين تشكيل القبائل – أحد فصائل مكونات الجبهة القومية – في بداية أكتوبر 1963م , والذي بلغ ذروته في 14 أكتوبر في معركة حامية الوطيس استشهد فيها المناضل البارز راجح بن غالب لبوزه – شكل هذا الحدث البداية الفعلية لثورة 14 أكتوبرضد الاستعمار البريطاني .
وهكذا بدأت مرحلة كفاح مسلح شرس ومنظم استمر ملتهباً طيلة 4 سنوات وتُوج بالنصر الحاسم والمؤزر في 30 نوفمبر 1967م .
جبهتا ردفان وحالمين :
لعبت جبهتا ردفان وحالمين دوراً بارزاً ومشهوداً في صمود واستمرار هذه الثورة التي حاول المستعمر تصويرها في وسائله الإعلامية وكأنها مجرد “تمرد قبلي” . وقد جاء في الوثائق البريطانية التي أشار إليها المؤرخ سلطان ناجي في كتابه “التاريخ العسكري لليمن ..” ص 271 ” إن المندوب السامي منزعج للغاية بشأن تطور نشاط المنشقين – يقصد الثوار – في ردفان ” .
وقد اضطرت بريطانيا خلال الأشهر الأولى لاندلاع لثورة إلى القيام بعمليات حربية كبيرة وواسعة ضد الثوار , وكانت تلك المعارك بالفعل أكبر معارك بريطانيا خلال حرب التحرير.
وسجل المؤرخ سلطان ناجي يوم 28 ديسمبر 1963م بداية دفع بريطانيا بكل ثقلها في معركة ردفان وذلك بغرض القضاء على الثورة في مهدها. لكن ثوار ردفان الذين ساندتهم أيادي أخوانهم في الضالع والشعيب وحالمين والصبيحة ويافع وعدن وأبين وغيرها من المناطق ومن ثورة 26سبتمبر وخاصة من جناحها القومي والأهم من ذلك مصر عبدالناصر, برهنوا أن ثورة 14 أكتوبر 1963م انطلقت كي تنتصر . وهو الأمر الذي دفع المندوب السامي البريطاني أن يكتب إلى بلاده “أن ما لم يكن عادياً هو أن الألغام قد بدأت تُستخدم وبدأت تبلغنا التقارير عن وجود ثوار في ميدان المعركة وهم بأزيائهم المميزة – الكاكي – يسمون أنفسهم بمقاتلي الجبهة القومية , وهذا أول تهديد للأمن خارج عدن نقابله ..” .
جبهة عدن
في منتصف عام 1964م بدأ العمل الفدائي في عدن المستعمرة . حيث نفذ الفدائيون سلسلة عمليات ناجحة, كرمي القنابل على منازل وأندية كبار الضباط الانجليز وضرب المطار العسكري , مما أدى إلى قتل وجرح العشرات من الضباط والجنود الانجليز . وخلال هذه العمليات اكتسب الفدائيون خبرات إفادتهم في العمليات العسكرية لاحقاً .
وفي أواخر عام 1966م تحول العمل الفدائي في عدن إلى المواجهة المباشرة مع المستعمر .. فتميزت العمليات العسكرية بالتحرك المكشوف وخوض معارك الشوارع ضد الدوريات الانجليزية وباستخدام مدافع الهاون والبازوكا .. وكانت أعنف المعارك قد جرت في عدن خلال قدوم بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في ابريل 1967م , وتوجت العمليات العسكرية للثورة بالسيطرة على مدينة كريتر في 20 يونيو 1967م لأكثر من أسبوعين , وقد كان لهذا الحدث تأثيراً سياسياً ومعنوياً بالغ الأهمية لتعبئة الجماهير لتحرير المناطق الأخرى ولتطوير التنسيق والتعاون بين فدائيي الجبهة القومية والعناصر المؤيدة للثورة في وحدات ومعسكرات الجيش والأمن . كما شكل هذا الحدث رداً سريعاً ورفضاً مباشراً لنتائج هزيمة 5 يونيو 1967م على الجبهة العربية الإسرائيلية , ورسالة تضامن وتعاطف من ثورة 14 أكتوبر مع الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر وجماهير مصر والأمة العربية كلها ..
جبهات الريف
في الوقت الذي كانت فيه جبهة عدن ساخنة سخونة صيفها الحار وأشد , كانت هنالك أواخر عام 1965م أحدى عشر جبهة في الأرياف هي جبهات ردفان، حالمين , الضالع , الحواشب – الصبيحة , المنطقة الوسطى – أبين – , وبيحان والواحدي والعوالق – شبوه – , . وعلى العموم كانت جبهة الضالع أهم هذه الجبهات التي كان قد بدأ نشاطها في أوائل عام 1964م بعد جبهة ردفان مباشرة , وفي عام 1967م امتد الكفاح المسلح بقيادة الجبهة القومية إلى حضرموت والمهرة وسقطرة .
تحرير المناطق
كانت الضالع اول المناطق المحررة في أغسطس 1967م وتلتها بقية المناطق واحدة تلو الأخرى , بحيث أن الجبهة القومية عقدت مؤتمراً صحفياً نهاراً وجهاراً في مدينة زنجبار يوم 2 سبتمبر 1967م , وخلال الأشهر الثلاثة اللاحقة ( سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر 1967م ), تحررت كل مناطق الجنوب على أيدي الثوار وجيش التحرير والمواطنين والتنظيمات والتشكيلات الأخرى وخاصة جبهة التحرير – منظمة التحرير – والتنظيم الشعبي التي كان لها إسهامها في ذلك , ولا ننسى أيضاً الإشارة إلى أشكال النضال الأخرى السياسية والثقافية بالمظاهرات والإعتصامات السلمية والدور الذي اضطلع به اتحاد الشعب الديمقراطي – شبيبة السلفي – بقيادة الفقيد عبدالله عبد الرزاق باذيب وحزب الطليعة الشعبية- حزب البعث – بقيادة المناضل أنيس حسن يحيى .
النصر العظيم وأعلان الاستقلال ودلالاته السياسية التاريخية
تكلل الكفاح المسلح لثورة 14 أكتوبر بالنصر التام في 30 نوفمبر 1967م بانسحاب آخر جنود الاستعمار البريطاني وإعلان الاستقلال الكامل والناجز وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية . ويخطئ تماماً من يسمي هذا اليوم ” يوم الجلاء” , لأن انسحاب القوات البريطانية قد تم بطريقة لا مثيل لها في تاريخها الاستعماري , فلم تجر الاستعراضات العسكرية في هذا اليوم أو تؤدى التحية وتصافح الأيدي كما جرت العادة عند تسليم الاستقلال في بلدان أخرى .
لقد جاء هذا الاستقلال “بعد حرب طويلة وشرسة في شوارع عدن تركت جنود الانجليز جاثمين كأعجاز نخل خاوية وأخرى في جبال ردفان وبقية الأرياف وأجبرتهم على الفرار مختلطاً حابلهم بنابلهم ..” حد وصف المؤرخ الكبير سلطان ناجي .
أما الشاعر الكبير محمد سعيد جراده فقد صور حال تحرير الجنوب وطرد الانجليز بقوله :
نسف الجبال الساخرات فلم يهب إلا سواماً في الهضاب الجثم
ورمى المعاقل غير أن صخورها لم ترتعد فرقاً ولم تتـــــــألم
وأتته أسباب المنية من عل من حيث لا يشعر به أو يعلم
فارتد مذعوراً بديداً شملــــــــه وعلى رواه الخوف جد مجسم
قد جاء وهو مدرب ومنظـــــم فارتد غير مدرب ومنظــــــم.
إذاً , لم تتخلى الحكومة البريطانية عن مستعمرتها إرضاءً لضميرها أو لسواد عيون أبناء عدن والجنوب, وهي التي ظلت هنا 129 عاماً بالحديد والنار والعصا والجزرة وسياسة فرق تسد لما يمثله هذا الموقع من أهمية إستراتيجية بالغة .
وقد ذكر الحاكم البريطاني في بومباي في رسالة موجهة إلى مجلس إدارة شركة الهند الشرقية في 27 فبراير 1838م ما يلي :
” إن عدن بالنسبة لنا لا تقدر بثمن فهي تصلح كمخزن للفحم طيلة فصول السنة ويمكن أن تكون ملتقى عاماً للسفن المستخدمة طريق البحر الأحمر وقاعدة عسكرية قوية بواسطتها يمكننا أن نحمي ونستفيد من تجارة الخليج العربي والبحر الأحمر وعدن متى أصبحت في أيدينا ستكون صعبة المنال من البحر والبر “.
أما الكابتن هينس القائد العسكري للحملة البريطانية على عدن , فقد كتب إلى حكومته قائلاً ” إن هذا المرفأ العظيم – عدن – يمتلك من القدرات والإمكانات ما لا يملكه ميناء آخر في الجزيرة العربية فهو يحتل مركزاً تجارياً ممتازاً لاشك أنه أنسب الموانئ الموجودة لمواصلات الإمبراطورية عبر البحر الأحمر ..” .
ومن الجدير بالذكر أن بريطانيا التي اضطرت ان تعلن في 22 فبراير 1966م بأنها ستنسحب من عدن عام 1968م , قد اضطرت أيضاً ولكن تحت ضغط لهيب المعارك والخسائر الفادحة التي تكبدتها , أن تعجل بالانسحاب من عدن وتجلس إلى مائدة المفاوضات مع وفد الجبهة القومية في جنيف – الذي خاض مفاوضات شاقة ومعقدة ومضنية أظهر خلالها مراساً سياسياً مذهلاً – كتحصيل حاصل لما جرى في أرض الواقع من كفاح توج بانتزاع الاستقلال .
هذه هي ثورة 14 أكتوبر وهذا هو الاستقلال الناجز والتام الذي تحقق لشعبنا وهو يعتز بذلك أيما اعتزاز , وما أحوجنا إلى تذكر قول المناضل العربي الخالد مصطفى كامل ” سأبقى حتى الممات حاملاً لواء الاستقلال , لأن هذه العقيدة هي حياتي, وبغير شعلة الوطنية لا أستطيع الحياة وتبقى الوطنية رائدي ونبراسي , ويبقى الوطن كعبتي ومجده غاية آمالي .. “
وأخيرا أشير إلى أن تقييم هذه الثورة الآن مثير للجدل، لكن التاريخ ينبغي قراءته كما حدث وليس كما نريد اليوم .