كتب/ محمد عوض
ليلة الفتح المظلم (1)
الثاني من إبريل 2015م
صحوتُ على قرع باب غرفتي بحلول الساعة الحادية عشر ليلاً، كانت ليلة ثقيلة ورأسي يريد أن يتحول إلى قنبلة وينفجر، وكأنها إشارة غير مفهومة لشيء ما سيحدث قريباً سيقلب المكلا رأساً على عقب.
الطارق كان أخي الأصغر يخبرني بأن العشاء جاهز، لكنني اعتذرت عن المجيء وحاولت أن أعود إلى النوم، كنت أسمع دوي إطلاق نار من أسلحة مختلفة، لكن في تلك الآونة كانت هذه الأمور عادية وطبيعية كنتيجة حتمية للانفلات الأمني مع سلطة أقل ما يُقال عنها أنها “عصابة”، وكنت أقطن في مكان يُدعى حارة باسويد بديس المكلا، وهذه الحارة لديها سمعة سيئة بفوضويتها وانتشار السلاح فيها، لكنني اعتدت عليها وعلى أفرادها وعلاقتي بكل من فيها جيدة إلّا ثلة سيظهرون لاحقاً!
فتحتُ هاتفي المحمول لأرى ما يمكن أن أراه على الفيس بوك، ورأيت فيه ما لم أستطع استيعابه، وقد سرّب أحدهم صورة سيارة بها جموع مسلحة وبلحى كثّة، حدث كل شيء سريعاً وسريعاً أيضاً وجدت نفسي في الصباح وشيء ما يوخز قلبي، وكان عندي يقين أن ما شوهد ليلة الأمس كان حُلماً تعيساً ليس إلاّ، وحين دخلت مرةً أخرى على الفيس بوك فوجئت بمنشورٍ صادم، صور جثث مرمية على أحجار كبس بحر المكلا، ورصاص الاشتباكات اخترقت السيارات وشوّهت منازل المكلا القديمة والأكثر ضراوة هي العبارة التي تقول “سيطر أفراد تنظيم القاعدة على مدينة المكلا!”، خرجت من غرفتي وأقدامي تتسابق ليقابلني أبي وهو يقول “حذارِ أن تخرج، فالوضع خطر”.
لقد سيطر التنظيم على المدينة..
وبقيت طيلة يومين وأنا في حالة ترقّب وتعجّب وانكسار، لم أغادر البيت مصعوقاً من أمرين ثقيلان عليّ، الأول سيطرت التنظيم على المدينة أمر لم أستطع استيعابه إطلاقاً، والثاني تلك الصور التي تم تسريبها وأبناء المكلا ينهبون من مؤسسات الدولة، كراسي وطاولات وأجهزة حاسوب وأجهزة تكييف وتبريد، وحتى المستشفيات لم تسلم فقد ظهر أحدهم وهو يسرق سرير توليد النساء، وما زال التساؤل يزورني أحياناً إذ أنني لم أفهم بعد بمَ سيعود النفع لهذا اللص من سرير الولادة!
لقد سيطر التنظيم على المدينة..
وهرب محافظها “باحميد”، دون أن ندري هل كان على وفاق معهم لذا تركوه مقابل تسليم المدينة لهم على طبق من ذهب، أو كانت أوامر عليا، ففي اليمن لا تفرق بين الجيش النظامي والجماعات المسلحة الأخرى، بين لابس الزي العسكري وبين لابس الزي الباكستاني، ثم يلحقه تساؤل آخر وهو أين كانت تلك الجحافل الشمالية التي إن رأت فقط علم الجنوب يرفرف سارعت بطمسه وحرقه وإطلاق الرصاص الحي لمن يحاول أو يفكر حتى برفعه! منطقة عسكرية كاملة بعتادها العسكري لم تصمد أمام 150 فرد من هؤلاء بلحاهم الكثّة.
لقد سيطر التنظيم على المدينة..
ثم جاء سياسي آخر من أهم أعلام السياسة في حضرموت واليمن ليخرج بتصريح غريب عجيب مريب، ليقول عن هؤلاء بأنهم “أبناء حضرموت”، وهم بالفعل أطلقوا على أنفسهم أبناء حضرموت، رغم أن من بينهم (الذماري والبيضاني والمأربي والأبيني) وهي أيضاً قيلت لأسباب يُصعب تكهّنها ويصعب حتى قياس دافع قائلها بالقول أن هؤلاء أبناء حضرموت، لقد أساء إلى حضرموت وإلى أهلها رغم أنه ينتمي إليها.
لقد سيطر التنظيم على المدينة..
وهرب كل من في السجن المركزي، القتلة والمغتصبون واللصوص والإرهابيون، وقيل عن هذه الليلة بأن هؤلاء الإرهابيون حفروا خندقاً بملعقة، إنه لأمر يفوق الخيال، لكنه يحدث في عقول الذين سيطر الجهل مكنونات عقولهم وصدّقوا ما قيل كما صدقوا من قبل خزعبلات شيخهم الأكبر “الزنداني” في حرب صيف 94م، لقد تجاوزت معجزات هذا المدعو وأبناؤه معجزات السيد المسيح.
لقد سيطر التنظيم على المدينة..
وخرجت في اليوم الثالث صباحاً، على دراجتي النارية أطوف وأجول أتأمّل المدينة المنكسرة وهي تحتضر بعد أن طالتها نيران جماعات إرهابية تعبث بها، حتى وصلتُ قرب البنك المركزي فرأيت أفراد التنظيم مجتمعين بكثرة وكثير من أبناء المكلا أيضاً متواجدين، فسألت أحد المعروفين عمّا يدور، فقال إنهم يحاولون منذ يومين كسر باب خزينة البنك، وعدت إلى البيت خائباً، وعند العصر خرجت لغرض مستعجل وكنت ألبس “شورت جينز” فوق الركبة بقليل وعندما ركبت الدراجة كان نصف فخذي عارياً. كنت أنتظر أحدهم وحينها استقرت سيارةً أمامي بها جمعٌ غفير من التنظيم. كانت لحظة مرعبة!
الرجل الذي كان جالساً قرب السائق في هذه السيارة نظر إليّ، وأطلق ابتسامة عريضة وسألني عن حالي، قلت له أنا بخير، وعرفت فيما بعد أنه منشد التنظيم الذي سيموت لاحقاً في المكلا بضربة جوية من طائرة بدون طيار أمريكية، كنت أنتظر منه تعليقاً على لبسي، أو حبسي أو ربما قتلي فكل الاحتمالات واردة مع هؤلاء، لكنه اختار أن يعطيني الأمان قبل الحريق القادم.
وردة نبتت في صحراء قاحلة (2)
أياماً مقفرة تلك التي تخلو من فنٍ وأدب، وبسم الله يُلعن من يحاول أن يقترب من هذه المحظورات في شريعة هؤلاء، وفي هذا السياق يكتب أمين معلوف (…. وكأن غاية المتدينين الوحيدة هي إفساد السعادة في الحياة) وهؤلاء لم يفسدوا السعادة فقط بل كل الحياة.
قبل ذلك كان لدينا ملتقى أسميناه ملتقى الإبداع الأدبي، يضم جماعة تكتب في الأدب تحت إشراف أساتذة أكاديميين ونقاد تحت مظلة اتحاد أدباء حضرموت، لكنه كعادة أي فريق يبدأ متحمساً ثم يصيبه الشلل.
إن ملتقانا الأدبي هذا ونشاطه الذي اقتصر على الفيس بوك فيما بعد، انفتح على فئة كبيرة من الشباب والبنات ضمن إطار مجموعة إلكترونية على الفيس بوك، والجميع يتسابق لنشر نصوصه الأدبية الغزلية غالباً.
عرفت إحداهن على هذه المنصة، ولا أدري كيف امتدت علاقتنا الافتراضية طويلاً، المتعمقة بعيداً بعيدا والتي لا أسميها علاقة حب لأنها كانت تحب شخصاً آخر – سأعود إليه لاحقاً – وإنما أسميها علاقة تكوينية لكلينا.
دخل التنظيم وانقلبت الحياة رأساً على عقب، ومظاهر التمدن ماتت وتموت، وأحوال البشر ونفسياتهم أيضاً تتبدل، وفي ذات يوم تأتي لتقول هذه الصديقة أن حبيبها بدأ يتأثر بأفكار التنظيم وحتى علاقته بها يرى فيها عيباً أخلاقياً وشرعياً، قلت لها ولمَ لا يأتي ليخطبك إذاً ويجعلها شرعية بالزواج! لم تجب، وواصلت أنها خائفة من أن ينخرط معهم، قلت لها أهو حِمار إلى هذه الدرجة؟ لم تجب أيضاً.
واصلت الحديث عن أنه ضيّق الأفق، تعيس الوعي، ضئيل المعرفة بحس إنساني متقزّم ومقزز، وأظن أنني واصلت تحقيره كثيراً، ووصمته بأشياء غير لائقة لأن غضبي على الجماعة كبير، ثم قالت (لكننا يا محمد نفعل أشياء غير صحيحة ومحرمة شرعاً وقد يكون كلامه صحيحاً) وما جاء بعد هذه الإجابة كلامٌ طويل، نِلتُ منها ومنه تماماً ولم أنتهي إلّا بعد أن تأكدت أنّها حظرتني من المحادثة كي لا أكمل.
وعادت بعد فترة قصيرة لتقول أن علاقتها به انتهت، لقد قال لها ما يكفي ليهرب بحجج شرعية سيطرت عليه، ولا أدري ما حلَّ به بعد ذلك، وعادت هي بوعيٍ أكبر بعد هذه العلاقة.
انطفأت هي، وانطفأ الملتقى وعدنا بعدد لا يتجاوز الخمسة أشخاص نجتمع في غرفة صغيرة مع حمام مخيف، وكل واحد فينا جاء بعشرات الكتب من مكتبة منزله الخاصة ووزعناها برفوف على جدران الغرفة الأربعة، وما هي إلّا يومان ليأتيني اتصال حوالي الساعة الثانية عشر ليلاً يخبرني أحدهم بألّا أعود إلى تلك الغرفة لأن التنظيم يعرف عنها وعن نشاطنا فيها، ونحن لم نبدأ بعد بأي نشاط، كلها جلسات حوارية بيننا، لكن الفكر الأحادي دائماً ما يتخوّف من فكر مغاير عن نمط فكره، لذا يمارس القمع في سبيل إطفاء أي فكر يهدد فكره، وبعد الاتصال بقيت قلقاً من هذا الموضوع، وإذا اتصلت بأحد الرفاق سيقلق هو الآخر، لذا تركت الأمر حتى الصباح.
كنت أعمل محاسباً في مدرسة خاصة، وصديقي الشاعر يعمل معي في ذات المدرسة، أخبرته بذلك وعند انتهاء الدوام غادرنا سريعاً للغرفة وأخذنا بعض الكتب التي قد تلقي بنا في جحيم التنظيم بلا رجعة، ووقفنا عند رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” يقول لي لن ينتبهوا لها فعنوانها بسيط ولا يوحي بشيء، ومن الخطأ أن نعتقد أنهم لا يفهمون ولا يعلمون، قلت له ولكن نجيب تعرض لمحاولة الاغتيال بسببها هذه، لذا ضعها مع هذه الكتب حتى حين، ولا ندري في تلك اللحظة متي ستأتي هذه الحين، وهل ستأتي ونحن أحياء أم أن مصيرنا الذبح!
خبّأت هذه الكتب في منزلي، وسارت الحياة واستمر حضورنا في غرفتنا تلك وأحاديثنا استمرت وستطفو قريباً وتفيض بعد أن يغادروا ولكن باسم “منتدى ميلاد”.
فُتح بابُ جهنم (3)
في أحد الليالي السرمدية على خور المكلا قبل دخول التنظيم أُضيف إلى جماعتنا شخصٌ لطيف قليل الكلام كثير الإنصات، وكنّا ليلة حضوره الأول نتحاور – إذا لم تخن الذاكرة – عن شيء ما يخص الدين، وكنّا نود سماع رأيه في الموضوع، لكن إجابته كانت غير متوقعة، والتي ستتضح فيما بعد أنها غير صادقة تماماً.
قال إن إيماني كإيمان العجائز، وهي مقولة قيل أنها للصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أن إيمانه كسول لا يتفاعل مع حسّ النقد والشك وإعادة النظر، وقد كنّا جماعة في أوج حماسها الفكري ضد البُنى العتيقة التي تجعلنا دائماً عاجزين عن التحرر، التطور، التمدن ومشلولين غير قادرين على الحراك، وإجابته كانت يأساً مكتمل المعنى، لكن سرعان ما تبدّلت تلك النظرة وأصبح جزءاً أساسياً من هذه الجماعة النيّرة، وقد أتضح أن تفكيره ناضج وذو عقلية نقدية وعلمية أصيلة، وهو فوق كل ذلك قارئ جيد في التاريخ والأديان والعلوم، وفي كل مره يُفاجئنا بعلمه الغزير، وهو شخصية لطيفة مع الآخرين، فهو يشع ويفيض محبة للإنسان وأيضاً مواظب على إقامة الصلاة في المساجد.!
ذات يوم أرسل صديق آخر رسالة نصية يقول فيها (لقد فُتح باب جهنم) أتصلت به لأفهم ما معنى ذلك، وعرفت أن صديقنا المستنير تم اعتقاله والتهمة (نشر العلمانية)!
ما معنى أن تُعتقل بمجرد اسم؟!
ولماذا تُعتقل؟!
لماذا نحكم على البشرية من خلال عاداتنا وتقاليدنا واعتقاداتنا؟!
تتقافز الأسئلة استنكاراً والإجابة واحدة وهي (اللا تسامح)
لم تكن المشكلة في التنظيم وحده، لأنه بالفعل مكون إرهابي وإقصائي لا يقل كارثية عن نازية هتلر وفاشية موسوليني، المشكلة في أبناء البلد ممن كان يتشفّى باعتقال صديقنا المستنير لا لخلاف شخصي بل بسبب المسمّى، والأدهى أن المسمّى هم من يطلقوه عليك!
لم تكن أياماً عادية بعد أن فُتح باب جهنم كما عبّر عنها صديقي الآخر، كنّا نخرج من منازلنا على أمل العودة من جديد، أحلامنا مرعبة ويقظتنا مقلقة مع الشعور بالأسى عمّا حل بصديقنا المستنير!
قبل ذلك كنت أرتاد المساجد في طفولتي وعرفت أحدهم في ذلك الوقت وكان صديقاً مقرّباً في الطفولة، شديد التعنّت غبياً ولا يبدو عليه التدين!
وكان انطباع الكثيرين أن وجوده في المسجد لكي يلعب أو يبدو أنه مجبراً من قِبل أهله.
ومرت الأيام والسنين لنجد أنفسنا في عوالم أفكار مختلفة، وحين برز الاختلاف كأنه لم يعد يعرف أحداً سواي، ففي كل لحظة وحين يتكلّم عني في كل مناسبة وغير مناسبة، وحين يراني لا ينفك عن التعليق عن زندقتي وهرطقتي رغم أني لم أناقشه في أي مسألة قط!
قبل دخول التنظيم ربّى لحيته وأصبح مخيفاً، وذات يوم كنت في مقهى إنترنت لأحد الأصدقاء لعمل صيانة لبعض الأجهزة الموجودة فيه، وأثناء ذلك دخل هذا الملتحي وفتح جهازاً في آخر المحل.
رأيته منهمكاً في مشاهدة شيء ما، وأستطيع بضغطة زر وأنا جالسٌ بالجهاز الرئيسي أن أرى ما يرى، وكان تفكيري بذيئاً، فقد جاء في فكري أنه يشاهد فيلماً إباحياً لأنه كلّما مرّت الدقائق ألاحظه ينهمك أكثر فقمت بفتح النافذة في النظام لأرى ما يرى، لم يكن فيلماً إباحياً بل محاضرة يلقيها رجل ملتحي ومن خلفه صحاري وجبال وحجرة صغيرة على يمينه معلقٌ بها شعار التنظيم!
لم أستغرب ما يراه ولم أهتم، لكن بعد دخول التنظيم وفي كل مرة أراه مصادفةً يتهكّم ويستغرب لماذا لم يُلقي القبض عليّ حتى الآن. وفي معظم الحالات أصمت وأغادر إلا في حالات قليلة أنفعل وأصل معه إلى ما قبل المصارعة بقليل. وما أستغربه أنا، هو كثافة الحقد والغل التي تسيطر عليه!
بقيَّ على هذا الحال حتى غادر التنظيم، وسريعاً أيضاً حلق لحيته ورأيته مرات وكنت أقول له أيضاً (عجيب.. ألم يتم اعتقالك بعد) لكنه لا يصمت ولا ينفعل، بل يأتي متودداً يا محمد يكفي هذا بالله عليك، سيسمعك أحد!
المكلا وأشياء من قندهار (4)
إن المكلا مدينة صغيرة وتاريخها قصير، وهذا التاريخ القصير له معالم وهوية خاصة تجدها حاضرة في أحياء المكلا القديمة، مبانيها وأبوابها وتفاصيلها البديعة.
وفي المكلا أيضاً جسر يوسم بالجسر الصيني، بُني هذا الجسر عام ١٩٧٩م وحتى هذا اللحظة لا يزال صامداً أمام التقلبات البيئية والحروب العبثية وهو يشكّل إحراجاً لمقاولي الجسور المبنية حديثاً المتآكلة سريعاً كأنها جسور من بسكويت ويفر، وبالقرب من هذا الجسر أضرحة يُقال أنها لعمّال صينيون ممن بنوا هذا الجسر.
والمكلا أثناء حكم التنظيم لها قاموا بتهديم الأضرحة والسبب كما كتبوا حينها خوفاً على أهالي المكلا أن يعبدوها من دون الله ولا حول ولاقوة إلا بالله.
وهي مساعي لحرق التاريخ وذاكرة المدينة وتراثها، وهي بالفعل أعمال إرهابية، لكنها امتداد للبتر الذي حلّ بهذه المنطقة فِعل السلطات المتعاقبة وتبدو هذه الأفعال ليست محصورة على هذا الكيان، فكل سلطة استبدادية ذات طابع آيديولوجي أحادي تحاول إلغاء أي صلة تاريخية لا تمثلها في المنطقة، كما فعلت سلطة علي عبدالله صالح مع تراث اليمن الديمقراطي قبل الوحدة، وكما فعلت أيضاً الجبهة القومية بعد التحرير بتراث السلطنات في المنطقة، والجانب الديني لا يخلو من تلك الممارسات العبثية فعندما توغل السلفيون أو تابعي فكر محمد بن عبد الوهاب بعد الوحدة حاولوا بكل الوسائل إلغاء الفكر الصوفي والتنظيم كان امتداداً لهذه الحملات ضد المتصوفة في حضرموت فقاموا بتهديم المراقد والأضرحة والقباب.
وهذا التنظيم لم يكتفي فقط بتهديم معالم المدينة الصغيرة، بل عمد على تشويهها! لم ننسى ذلك اليوم حين عُلّقت جُثتين على جسري خور المكلا ليوم كامل، يراها المارون وكل المارون (رجال ونساء وأطفال) وهذا نذير شؤم عمّا سيكون عليه الجيل اللاحق، ومأساة الكبار هي تحطيم الروح المعنوية في دواخلهم لمدينة المكلا مدينة البحر والفن والبساطة وهي تزداد كآبةً وفُحشاً وإرهاب!
أمّا عن اللعنة التي ستلاحقنا إلى الأبد فهي ما حدث في ذلك اليوم!
إن كتابة سرد هذا الحدث يشعرني بغصّة شديدة تضعف التنفس من شدة وقعها علي!
قبل ذلك رأيت – وياليتني لم أرى – مقطع فيديو يبدو في العراق أو سوريا للجماعة الإرهابية داعش وهي ترجم امرأة مكتوبٌ أنها زَنت وهي مُحصن!
لم يكن الفيديو مقرفاً فحسب، بل فاجراً جداً، إذ كيف لآدمي أن يفعل هذا الفعل الشنيع ثم لا يتحرك فيه شيء؟!
وأظنها كانت لحظة تحوّل في فكري، إذ أنني لم أعد أبحث في التاريخ الإسلامي أو الإسلام نفسه لما يناقض هذا التشريع “الإجرامي جداً” أو صعوبة شروط التلبّس المذكورة فلم يعد يهمني!
أنا أرفض هذا التشريع وحسب، ولن أكون يوماً من الأيام في صف واحد مع من يبرر هذا الفعل.. فقط لا أستطيع وانتهى السطر!
لم يفارق الفيديو فكري لأيام عشت فيها مرعوباً متألمّاً لما رأيته في الفيديو ولم يخطر في بالي أن مثل هذا الفعل الشنيع سيتكرر وبالقرب مني!
اهتزَّ كل شبرٍ مني حين سمعت بخبر أن إحداهن تم ضبطها وسوف يتم رجمها في مدينة المكلا، وبالفعل مرّت الأيام ليتحدد يوم الرجم وأعصابي على حافّة الإنهيار.. وتتساءل..
هل سيحدث
هل سيحدث
هل سيحدث
وحدث!
والأكثر أسفاً مشاركة بعض الشباب من المكلا الرجم، لطالما كان المجتمع مهيّأ للمضي قدماً ضمن هذا المشروع التدميري لأن هذا ما نتعمله حقيقةً في مدارسنا ومساجدنا (عنفٌ وكراهية وجفاف وإقصاء وإجداب روحي ومعنوي) هي مخرجاتها!
إن هذه الحادثة الماحقة جعلتني في مواجهة كُبرى حتى مع أقرب الناس، رغم أن معظمهم يرفضون هذا الفعل نفسياً لكن العقيدة أقوى.
شعرت بأني وحيد.. وأنني لا أنتمي لهذه البقعة الظالم أهلها ومن يحكمها، وكل هؤلاء أمامي لا يشرّفني أن أكون منهم حتى الصامتون وليس فقط المبررون لهذا الفعل القبيح.
وما كنت عليه بعد الحادثة أن كرهت نفسي والعالم لفترة.
وفي الشلّة صديق لطيفٌ ومحبوب إلّا أنه عادةً ما يبالغ في التحدّي فقد قال لنا مرة – ونحن نتحدث عن ماذا لو تم إعتقال أحدنا وهواتفنا مليئة بما يخالفهم – (لدي برنامج في هاتفي يستطيع بضغطة زر أن يمحي كل شيء بالهاتف) ومن سخرية القدر التي أرادت أن تسخر منّا أن أُعتقل هو وكانت فاجعة!
والأفجع من ذلك أن رقمه على الواتس آب بعد إعتقاله (متصل) وكنت أتشارك معه عدة مجموعات على هذا التطبيق من ضمنها مجموعة كافتيريا النجوم وهي تضم كثيرين ممن كانت الكافتيريا على خور المكلا تلمّهم، وفي هذه المجموعة بالذات كتب أحدهم تم إعتقال صديقنا وهو الآن متصل يقرأ الرسائل ومن بعد هذه الرسائل انهالت المغادرة من المجموعة بالعشرات، وبالطبع أنا منهم!
وما حصل بعد هذا الإعتقال أن هرَب جلّ أفراد الشلّة بعضهم إلى وادي حضرموت وآخرون إلى القُرى والوديان!
ولم ينتهي الأمر عند صديقنا هذا، فكل لحظة نسمع عن إعتقال أحدهم من هنا وهناك فكانت أياماً صعبة!
ثم حدثٌ آخر وهو فتح جامعة حضرموت، وكنت حينها في المستوى الثاني في تخصص إدارة أعمال بكلية العلوم الإدارية قبل أن ألتحق بكلية الآداب بقسم الفلسفة!
كانت صفعة أن تفتح الجامعة في ظل حكم هؤلاء
كيف سيكون التعليم؟
هل سيُلغى الاختلاط؟
هل سيتدخل التنظيم في المقررات؟
تساؤلات بقيت عالقة لكن لم تترجم واقعاً
كنا نداوم وباختلاط.. لكن!
في موقف حصل أمامي، كانت فتاتان تمشيان أمامي يتحادثان ويضحكان في موقف عفوي اعتيادي، إلّا أن اثنين كانا واقفين عند سور الحديقة ملتحيان، قال (أحدهم اخفضي صوتك.. ألا تعلمين أن صوت المرأة عورة، ما قلة الحياء هذه؟)
وجواب الفتاة أشفى غليلي إذ نهرته ووصمته بأبشع الأوصاف ولم يستطع مجاراتها فغادر المكان!
تجبّر وتطرّف من له علاقة فكرية مع هؤلاء من الملتحقين بالجامعة طلاباً وأساتذة..
أما مدينة المكلا فتموت..
تخرج فترى من درس معك في التعليم الأساسي أو الثانوي يلبس زياً باكستانياً بلحية كثّة ويحمل سلاح!
ترى صديق طفولتك أو من كنت تلعب معه كرة قدم أيضاً تمظهر بما يظهر به أفراد التنظيم.
وعرفت أحدهم قبل سنين شاباً مراهقاً يبدو في السابعة عشر من العمر عندما كنّا نخرج إلى الساحل نلعب كرة قدم يأتي معنا، وأحياناً في رحلات ترفيهية أخرى.
وهو لطيف كثير المزاح مع الآخرين ويا للأسف، فقد علق مع التنظيم علقة لا نهائية، رأيته مرةً بزي التنظيم سألته مستنكراً، يا ولد حتى أنت… غير معقول!
وإجابته كانت ضحكاً فقط، وما هي إلّا أيام ليموت بضربة جوية من طائرة بدون طيار أمريكية!
أياماً بائسة وسيارة التنظيم تجول (صلاة صلاة) ومن يفتح محلّه أثناء الصلاة يُحبس مباشرة ويُحلق شعر رأسه، فكانت المكلا تبدو الأولى على مستوى العالم في عدد الصلعان.
هل سنبقى هكذا؟!
يجيب أحدهم وهو طبيب معروف في جلسة على كورنيش المكلا بعدد لا يتعدى الأربعة أشخاص!
يجيب بأننا يجب أن نبقى هكذا!
إجابته أستفزت الحاضرون إلاّ أنا، لربما توقعت إجابته أو ربما كنت أحمل من اليأس ما لا يتحمّله أحد!
ليلة الفتح المنير (5)
24 إبريل 2016م
قبل ذلك التاريخ بكثير، عرفت أحدهم وأصبح صديقاً عزيزاً بعد أن كنّا زملاء في عملٍ واحد، بل إنّي أُدين له بالكثير من الأشياء، إذ أنني عرفت الكثير من الشبّان عبره ممن لهم نفس اهتماماتي في الفكر وهو بلا أدنى شك مناضل حقيقي مع الحراك الجنوبي، وهو من دلّني على حركة نداء حضرموت وقد كانت مجرد أدبيات تصاغ وعددهم لا يتجاوز الخمسة أشخاص.
الحركة كانت فكرية ثقافية في طريقها لأن تكون حزب سياسي قادم، على أن يكون نشاطها يقتصر على جنوب اليمن الدولة المنشودة في أدبيات الحركة ولكن تحت غطاء الهوية الحضرمية لهذه الرقعة الجغرافية من المهرة حتّى باب المندب.
بعد دخول التنظيم تفككت الحركة، إذ أن نصف أعضاءها هرب لأنه كان مطلوباً منهم، وآخرون معتقلون والبعض مثلي على حافة الهاوية في جحيمهم.
صديقي المناضل هَرب أيضاً ثم عاد، ثم في ليلة ما اتصل بي بعد المغرب والتقينا في مكان العمل ليخبرني أنه ذاهب للتعسكر رغم أنه خرّيج بكلاريوس وسلّم وقتها التزاماته، وهو يحمل معه حقيبة المغادرة.
أوصلته بنفسي إلى مكان بعد منطقة الغويزي، ويبدو أنه لا يعرف أحداً ممن سيقابلهم هناك، وفي المكان حوالي 6 أشخاص وكانوا حذرين ويسألون كثيراً، وهذا طبيعي لأن الهدف من عسكرة شباب حضرموت هو تحريرها من جحيم التنظيم وغادروا وهو يقول سنعود لكن لسنا فاتحين كما يقولون بل محرّرين، ودّعتهم بسلام وانقضت الليلة في سلام.
في اليوم الثاني جاء أبيه صباحاً لمقر العمل يسأل ما إن كان ثمة إلتزام لم يسلّمه ابنه، قلت له كل شيء على ما يرام، وجلس قليلاً يشكو تهوّر ابنه ويبدو القلق عليه والتوتر، حاولت تهدئة باله وأن ابنه سيعود وتعود معه الحياة التي افتقدناها، جلس قليلاً ثم غادر محاولاً تصديق ذلك، وكنت على يقين بأن يوماً ما سيأتي ويشعر هذا الأب بالفخر بالقرار الذي اتخذه ابنه في مواجهة الإرهاب وبالفعل جاء بعد التحرير بوجهٍ آخر شديد الإشراق كاللحظة التي كانت بعد التحرير.
وتمرُّ الأيام ثقيلةً على النفس، والحياة تتآكل وتضيق أكثر وأكثر، لم يبقي التنظيم في المكلا ما يشير إلى الحياة إلّا وأشعل النيران عليه.
وفي نهار يومٍ ما، كنت أمشي في خور المكلا يقابلني صديق آخر وهو عضو في حركة نداء حضرموت أيضاً ممن اختاروا البقاء مثلي على حافة الهاوية في جحيم التنظيم، ويبدو من خلال ملامح وجهه أن معنوياته عالية، قلت له لقد نسيت هذه التعابير منذ زمن.
قال بشيء يشبه الإيمان: أصحابنا عائدون وهؤلاء اقترب زوالهم سأذكرك بذلك قريباً.
رددت عليه: نتمنى ذلك.
٢٤ أبريل ٢٠١٦م
اللية التي قبلها، قبل أن أنام سمعت باب غرفتي يهتز بشدّة، جاء في فكري أن هناك لص يريد فتح الباب، فتحت الباب وفتّشت كل شبر في بيتنا ولم أرى شيء، قلت لربما اختبئ في السطح فهرعت مسرعاً لأرى ضوءاً كثيفاً في السماء، ثم تلاه صوت انفجارات، وكان السؤال يا إلهي.. ما كلُّ هذا، ويلحقه الجواب سريعاً..
طائرات التحالف تقصف متارس التنظيم في مدينة المكلا، لقد جن جنوني في تلك الليلة، كان شعور الخلاص يتملّكُني بل هو أقوى خلاص شعرت به في حياتي حتى الآن من بضع غارات تُطلق من سماء المكلا.
خرجت الصباح على أمل أن تتبدل الحياة، ولكنها كما هي، الزي الباكستاني في الطرقات يجول ويطوف.
هل بقي كل شيء كما هو؟
وحين مررت بالجسر الصيني رأيتهم يرممون مبنى تهدّم بفعل غارات البارحة فكانت الإجابة.
الغارات لم تفعل شيئاً، وسيبقى التنظيم يأكل فينا بلا رحمة، ولكن سرعان ما تبدلّت الإجابة والأحداث تسارعت.
غادر التنظيم المدينة..
ودخل جيش النخبة الحضرمية مسنوداً بطيران التحالف محررين لا فاتحين كما وعد صديقي المناضل، وانقشعت بهم حياة ظلامية بائسة أكلت الأخضر واليابس جعلت حياتنا جافّة مقفرة.
غادر التنظيم المدينة..
وعاد ذات السيناريو في لحظة الفتح المظلم، نُهبت مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، حتى مبنى اتحاد الأدباء والكتّاب لم يسلم أيضاً، والمبنى قد سطى عليه التنظيم لحظة وجوده، وبعد خروجه نُهب تماماً، وكانت لي زيارة ووضعه مأساوي، لم نجد في القاعة سوى الكتب المرمية وما تبقى اختفى، ومن فُحش هؤلاء اللصوص حاول بعضهم انتزاع الكرسي العربي في الحمام وآثار تكسير واضحة على حدوده، وصل جنونهم إلى هذا المستوى العجيب، وصدق من قال القرّاء لا يسرقون، واللصوص لا يقرأون!
غادر التنظيم المدينة..
وطبّالي التنظيم بين ليلة وضحاها أصبحوا طبّالي جيش النخبة والتحالف، من بينهم رجل دين شهير حتى أنه في أول خطبة جمعة بعد التحرير كان يبكي على أمان الناس في ظل دولة الإسلام القاعدية، ثم بقدرة قادر أصبح واعظاً للسلطان يحث الناس على طاعته.
غادر التنظيم المدينة..
وأقيمت أول سهرة غنائية بعدها بأيام، كانت لحظة انتعاش لم نشعر بها منذ فترة طويلة… آه من تلك الليلة.
وحده الفن يعيد إليك حياةً كنت تحياها، وجدنا هويتنا الضائعة منذ سنة بين دندنات العود وأنغام الطرب.
لم يستطع بعض الناس المتأثّرون بأفكار التنظيم أن يرفضوا سماع النغم فعادوا وعادت معهم بهجتهم، والبعض اعتبر ذلك عودةً للمفسدة وبقيت أنفسهم غاضبة ورافضة لأدنى مباهج الحياة حتى حين!
غادر التنظيم المدينة..
ودخلنا شهر رمضان المبارك، وما هي إلّا أيام لتصدمنا فاجعة استهداف قوات النخبة في نقاط التفتيش ويصاب بعض المدنيين من بينهم فتاة صغيرة غادرت الحياة متأثرة بجراحها وكان السؤال: ألم يكن انسحابهم من المدينة بلا قتال كما يروج أنصارهم حقناً للدماء، فكيف تُسال الآن؟
تبّت أيادي الإرهاب أينما حلّت وكيفما صبغت نفسها بالمقدس واللا مقدس لتبرير عنفها وإجرامها تجاه الإنسان والحياة.
انتهت