اراء وكتاب

الإنسان المتمرد عند ألبير كامو

كتب / محمد عوض




من هو الإنسان المتمرد؟
هو إنسان يقول “لا” وهذا الرفض لا يعني أنه يتخلّى فقط فهو أيضاً يقول “نعم” وبمعنى أوضح أي لفظة “لا” تستدعي بالضرورة لفظة “نعم” ولكن ما الذي تعنيه هذه الّلا؟

هذه “الّلا تعني وجود حد لا يجب على أحد أن يتجاوزه، وهذا الحد يظهر بلباس الحق الذي يمتلئ بصورة جلية في ذهن المتمرد، لا يجب أن يتعدى أو يعتدي عليه أحد، و”النعم” هي الصورة التي يجب أن يكون عليها بعد هذا الحد، وهذه النعم تستند إلى يقين مبهم بوجود قيمة صالحة أو حق يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.. فمن أين يأتي هذا اليقين؟

كل قيمة ليس بالضرورة أن تُنشئ حركة تمرد، ولكن كل حركة تمرد تستدعي ضمنياً وجود قيمة.
يُدرك المرء في لحظة ما بأن فيه شيء ما يكبر يرغب في أن يتوحّد معه كلّياً. إن العبد الذي عاش فترات صابراً وصامداً على قمع وقساوة سيده، تأتيه لحظات ينفذ منه هذا الصبر فيتولد إنعكاس، فما كان مقبولاً في السابق أصبح مرفوضاً الآن، حتى وإن كان الأمر الذي صدر من السيد أقل تعسّفاً من الأوامر السابقة، إلّا أنه لم يشعر بهذه القيمة إلّا الآن، وقد بدأت تسيطر عليه ليصبح مستعد للموت في سبيل تحقيق هذا اليقين في هذه القيمة المبهمة، ولن يكون الأمر رفضاً لأمر سيده بل سيصل به المطاف إلى أبعد من ذلك كأن يطالب بالمساواة مع سيده، أو أبعد ليحمل هو السوط ويضرب السيد فيصبح هو المتعسّف، وهذا الوضع الجديد يجعله يُصغي على الدوام لصوتٍ من الداخل يخبره (إمّا كل شيء أو لاشيء) أي لا مساومة على الحق وعلى هذا اليقين وهي ما زالت إلى الآن مبهمة ولكنه شعور يولَد من التمرد.. فما هو هذا الشعور؟

هو شعورٌ بشيء كلّي لا يزال غامضاً ومع ذلك يستعد الإنسان المتمرد بأن يُفني حياته في سبيلها، لأن ذاته ذابت تماماً وانصهرت مع هذا الكلّي “الحق” فإمّا يكون أو لا يكون.
وهذا الشعور يمثل إنتقالاً من الواقع إلى الحق الذي بدأ يشعر به حين يبدأ بالقول ( كان يحب أن يتحقق ذلك) وهي تمثل الشعور بالقيمة، ثم ألى (أريد أن يتحقق ذلك) وهي تجسيد للنعم المصاحبة للا الرفض كما أسلفنا سابقاً.

ويلاحظ كامو أن حركات التمرد ليس في جوهرها أنانية، والمتمرد يغامر بكل شيء – رغم أنه يُطالب بالإحترام لذاته – في سبيل التوحّد مع جماعة طبيعية وهنا المفارقة!
إذ أن التمرد ينبع من الذات لأجل الذات لتحقيق أقصى درجات الحرية لانتصار هذه الذات وفي سبيل تحقيق ذلك تموت الذات وتنصهر في هذه القيم المبهمة. والمتمرد لا يدافع عن كيانه بالمطالبة فقط، بلا باعتراف الآخرين بما أعترف هو لنفسه بالشيء الذي صدر منه فجأة.

وملاحظة أخرى أن هذه الروح التمردية ليس بالضرورة أن تنشأ في ذهن المضطهد وحده، بل قد ينشأ أثناء مشاهدة اضطهاد لشخص آخر وفي هذه الحالة يتوّحد هذا المتمرد مع الآخر المضطهد فيخيل أن الإهانة موجهة له فيتمرد. وكمثال على هذا في الشخصية الثورية المعروفة (تشي أرنستو جيفارا) فقد كان طبيباً وحياته مستقرة ولم يكن مضطهداً، ولكن رحلته التي أنطلق بدراجته النارية على دول أمريكا اللاتينية جعلته يرى القهر والعذاب والمعاناة والاضطهاد والظلم على تلك الشعوب المقهورة، وكانت لحظة تحوّل في حياة جيفارا الطبيب إلى جيفارا الثائر المدافع عن المظلومين في كل العالم، مجسّداً فكرة التوحد مع الآخر المضطهد فتنشأ قيمة.

ولكامو رأي يقول أنه شديد الرجحان، وهو أن مفهوم التمرد لا معنى له إلا داخل التفكير الغربي باعتباره تفكير تنمو فيه الفردانية، أما المجتمعات التي يسودها التفاوت الواسع بين طبقات المجتمع كالمجتمع الهندوسي أو المجتمعات التي فيها مساواة مطلقة كالمجتمعات البدائية لا شيء يحفّز روح التمرد فيها، لا تنمو روح التمرد إلا في مجتمع يغطّي مساواة على المستوى النظري والفوارق تبقى موضوعية اقتصادية أو سياسية ونمو الفردانية ينمو معها ظمأ لمزيد من الذاتية، لا لأن المجتمع يزداد وعياً بحريته، بل باتساع الشعور بالذات.
أما المجتمعات شديدة الفوارق الطبقية ومطلقة المساواة لا تُطرح فيها أي قيمة تستدعي التمرد لأن البديل في العادات والتقاليد والقدسيات التي قدّمت أجوبة وتفسيرات خالدة لكل سؤال يستدعي التمرّد، والإنسان المتمرد هو إنسان موجود قبل القدسيات أو ما بعده ينهمك فيه للحصول على جواب إنساني خالص يرضي يقينه المبهم الذي يتمثل الخير والصلاح والحق الذي يعتقده ويجب أن يكون، فهل من الممكن إيجاد قيمة خارج القدسيات في المجتمعات التي تتشبث بها؟

ويقول بما معناه (إن الإنسان كما يوجد عليه أن يتمرد ولكن عليه أن يحترم الحد الذي اكتشفه في ذاته، وأن لا يستغني عن الذاكرة ويسأل دائماً هذه الذات بقيمها الجديدة، هل بقيت أمينة للنبل الأولي أم أنه بدافع التعب والجنون تاهت في نشوة النصر فطَغت وتجبّرت)

وأخيراً لكامو كوجيتو أيضاً تقول : أنا أتمرّد إذاً أنا موجود.

إلى الأعلى