اراء وكتاب

‏‎ثلاث رسائل فلسفية

كتب/ محمد عوض

(الوجود)
لا أدري لمَ هذه الأيام يغبط قلبي لانقطاع الكهرباء، أتأمل منتشياً هذه السماء الحمراء وهي تمطر عليَّ، ثم أسمع موسيقى كمنجة ذات نفسٍ طويل كهذا الوجود، هذا أنا وهذا فِعل الموسيقى في داخلي كما تعلمون!

‏منذ زمن ليس ببعيد كنت أتساءل لمَ الإنسان يحاول جاهداً تغيير الوجود، اخترع القوانين ورسم الحدود وخلق أنماطاً إجتماعية وأطر في طور التحديث، يصنع ويكتشف ويخترع ويحاول إخضاع الطبيعة له، فهل هناك رفض مبطن ضد قوانين الوجود؟

‏نيتشه الفيلسوف الألماني الشهير، أكثر فكرة من أفكاره اللا مألوفة أدخلتني في دوامة تأمّل شديدة الضياع وهي تلك التي تنادي للعودة إلى الطبيعة، كان يردد “أولئك الذين قلبوا الحياة رأساً على عقب هم أعدائي”.

‏ونيتشه يُعتبر عند الكثير من القرّاء فيلسوف متطرف، هل هذه عدالة أن يوسم من يريد العودة إلى الأصل بأنه متطرف، هل ما أبتدعه الإنسان أصبح قانون الوجود، والسؤال الأصعب كيف سَمَح لنا الوجود أن نغير في كينونته وما زلنا نفعل ذلك!!

‏قال آينشتاين مرة (إن أكثر الأشياء في الوجود غير قابلة للفهم هو أن الوجود قابل للفهم) واتضح أنه قابل للتغيير!

‏‎ (الحرية)
أتعلمون قد نكون محظوظون جداً بهذا البلد المشلول، فانقطاع الكهرباء يعطينا مساحة فارغة نتأمّل بها هذه السماء اللا نهائية.

‏القمر مكتمل هذا المساء ونوره ساطع بصورة لافتة، يعلّمنا هذا النور وهو محاصر بهذه العتمة أن نكون مخلصين للنور ونكافح لأجله مهما أحكم الظلام سيطرته على هذا العالم.

‏هل الإنسان حر؟
لابد أن نعي ما معنى أن يكون الإنسان حرّاً، وقبل أن نكمل أيضاً أود أن أُلفت العناية بأن مفهوم الحرّية مقلق ويضع كل تحرّكاتنا في موضع التساؤل كما أنها تفقدنا الطمأنينة تجاه ممارساتنا اليومية، ومع ذلك فأنا أسميه القلق اللذيذ وهو برأيي أكثر أماناً من الجهل المطمّئن.

‏بحسب المفهوم في موسوعة لالاند الفلسفية فالحرية هي (الوضعية التي يكون عليها كائن لا يخضع لإكراه بحيث يتصرف حسب ما تمليه عليه إرادته وطبيعته)

أنا لن أتحدث عن علاقة الحرية الإنسانية بالمجتمع أو القانون والسياسة فذلك موضوع آخر، بل عن الحرية في ذات الفرد (الإنسان) .

‏لكن كيف نعرف أن فعلنا أو اختيارنا لشيء ما نابعٌ عن إرادة حرّة، فالروح بحسب هيوم (مجموعة انفعالات) تستسلم هذه الروح عاطفياً وتسيطر عليها قوى مثل الغيرة والغضب والحقد وكل هذه المشاعر تساهم في اختيار أو قرار أو حتى تؤثر عليهما كلاً بحسب العمق المتوغل في ذات الفرد نفسه.

‏فهل يصح أن نقول في هذه الحالة أننا أحرار أم عبيد انفعالاتنا اللا إرادية؟

ولكن هل الفصل بين الذات وبين هذه المشاعر منطقي، إن شخصية الفرد وحدة كلّية وهذه المشاعر جزء من ماهيتها الداخلية، يبدو أن الأمر أصبح أكثر تعقيد!

‏هنري برغسون يرى أنه من العبث أن نقسّم الشخص إلى جزئين، (أنا تفكر وأنا تعمل من جهة أخرى) نحن وانفعالاتنا وأفكارنا هو نحن أيضاً.

‏بحسب هيقل فالحرية ليست شيئاً ثابتاً بل هي نفيٌ دؤوب اتجاه كل ما يعارض الحرية، لكن كيف نشعر أننا أحرار؟
هيقل يركز على ما يسميه الوعي بالذات، تعرف ذاتك بذاتك وهو يقابل أن تصنع ذاتك بذاتك، وتحيا واعياً بها على أنك حرٌ بها – وهو تناغم حقيقي مع الطبيعة الإنسانية – فإنك ستبقى دائماً حرّاً.

‏أمّا سارتر فالحرية عنده قدرٌ للإنسان حتى لو كان عبداً، فلديه حرية الإختيار بأن يكون حرّاً، واعتبر أن الإنسان محكوماً بالحرية، وهذه الحرية تجعله مسؤولاً على هذا العالم، أي أننا لا نستطيع التحرر من الحرية ذاتها لأنها مغروسة فينا

‏(المعرفة)
في هذه الأيام الهادئة، تنقطع الكهرباء مراراً، هل نستسلم ونعكّر صفوها…؟!
بالطبع لا. لذا دعونا نسرح في أهم الحكاوي الفلسفية في التاريخ، قد لا أبالغ إن قلت أنها نوّرتني بأهم ما يمكن معرفته في الفلسفة وأحاول أن أدرّب نفسي عليه.

‏قبل خمسة قرون قبل الميلاد في اليونان (مهد الفلسفة) وتحديداً في معبد دلفي، أحدهم يسأل العرّافة: من هو أذكى أذكياء أثينا؟
قالت له (سقراط) فذهب الرجل إلى سقراط يخبره أن العرّافة تقول أنه أذكى أذكياء أثينا، فضحك منه وقال (الشيء الوحيد الذي أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئاً).

‏فعلياً المعرفة هي من تخفف عنك أطناناً من الوهم كنت تظنه حقاً مطلق، وتجعل إدراكك للعالم والوجود أكثر إتزاناً وموضوعية لأنك تبحث دون فكرة أو إنطباع مسبق، وهي قدرة غير عادية يصل إليها الإنسان حينما تتغلغل المعرفة في ذاته فيزداد حرّية وصفاء.

‏الجهل بإدراك صاحبه، أهم من العلم المزيف الذي يعطي صاحبه حقاً مطلق.

إن الحكم على الأشياء في الفلسفة مرحلة آخروية وقد تكون هامشية، لو أن الفيلسوف أفنى حياته بالتجريد لكفى، البحث والتنقيب والشك وإعادة النظر وطرح السؤال أهم من الإجابة والحكم على الأشياء.

‏وسأختم بمقولة ذُكرت في رواية عالم صوفي التي تحكي تاريخ الفلسفة يقولها المعلم لصوفي “إن كان هناك ما يمكن أن تحفظه من دروس الفلسفة، هي أن لا تخرج باستنتاجات متسرّعة”

إلى الأعلى