كتب / محمد عوض
قد يطول البحث عن ماهية أو كينونة للفن كغيره من المفاهيم الإنسانية، إلّا أنه وبما لا يدع مجالاً للشك أنه إنسانيٌ بحت وصناعة إنسانية خالصة.
إن دراسة الفنون أصعب مما يتخيل المرء، وهو أكثر المباحث تجريداً وتعمقاً على مُعطى قد لا يستخدم اللغة مطية لفهمه، وما يعجز المرء عن تفسيره هو ذلك التجانس اللا منطقي الذي نلمسه فينا دون أن نفهمه، فكأنما ثمة علاقة بين الفن وبين شيء آخر قابعٌ فينا لا ندركه وهناك أيضاً مسألة في غاية الحساسية وهي : الفن.. وسيلة أم غاية؟
هناك ثلاث قيم أساسية في التراث الفكري للإنسان وهي الخير والحق والجمال، فالخير والجمال تعيشان في عالم الممكنات والحق هو العالم الفعلي القائم، والعالم الممكن هو تجلّي الإنسان ليبحر أبعد عمّا هو قائم فإذا ما تحول الخير إلى واقع أصبح حقاً ومثله قيمة الجمال، لكن ليس بالضرورة أن يكون الجميل خير كما ليس بالضرورة أن يكون الخير جميلاً وهذه من أكبر المسائل جدلاً فالفنان قد تتم معايرته بفنه الذي لا يدعم أي فضيلة أخلاقية وعليه تقوم حرباً ضروس بين الأخلاقي والفنان، ولكن لا شأن للفنان بالفضيلة فالفن معياره الفن لا الأخلاق.
سأضرب على هذا مثال (تخيل وأنت تمشي على شارع أكسفورد بلندن فترى حشداً من الناس حول شيء ما فتذهب لترى رجلاً بسيطاً يحمل جيتار ويعزف بشكل رائع أعجبك، وقفت تتأمل عزفه مع كثير من الناس وأخرجت هاتفك النقال لتصوره ثم تضعه على صفحتك الفيسبوكية وتخبر أصدقاءك أنك كنت محظوظاً لمشاهدة هذا الجمال، وفجأة يُسمع ضجيج خلفك فتلتفت لترى رجلاً يحمل سكيناً أمسك فتاة وأشار بالسكين على عنقها يريد قتلها وهو – كما يبدو – سكّيراً مغيب العقل، مشهد مروع حين ترى أحدهم على وشك الموت ففر الجميع وجاءت الشرطة حالاً تطلب من الجاني ترك الفتاة وهو يرفض ومن شدة خوف الفتاة غابت عن الوعي فلم يستطع السكّير حملها فهوت على الأرض إلاّ أن الجاني حرّك سكينه وكاد يغرسها في قلب الفتاة فتدخلت الشرطة وأطلقت النار فأصابت قدمه فهوى السكير وسيطرت الشرطة على الموقف، وقفتَ مذهولاً ومرعوباً فالفتاة ما زالت مرمية على الأرض والدماء تسيل من قدم الرجل السكير وهو يصرخ فشعرت برغبة في التقيؤ لهذا المنظر المقرف)
نوقن أن عمل الشرطة أخلاقي في هذه الحالة وأدركنا أن المنظر ليس جميلاً بهذه الدماء والصراخ وهذا ما يتجسد في قول أن الخير ليس بالضرورة أن يكون جميلاً لكنه في النهاية عملاً أخلاقياً.
ما زال لدينا أن نثبت العكس وهو الجميل اللا أخلاقي، بالطبع أنت تعرف أن أكبر جائزة قد تحصل عليها إن كنت إنساناً عظيماً هي جائزة نوبل، وهناك مجموعة تُدعى (كتب لوموند المائة للقرن) وهي مجموعة تضم مائة كتاب يُعتقد أنها الأفضل في القرن وفي العام 1999م تم اختيار تلك القائمة وكان من بين هذه الكتب رواية إن لم تكن قرأتها فقد سمعت عنها وهي رواية الغريب لألبير كامو الفيسلوف الجزائري الفرنسي وهو أيضاً حاصل على جائزة نوبل للآداب لإنتاجه الأدبي الذي أقلق العالم وقتئذ.
استطاعت هذه الرواية الصغيرة بالفوز رغم ما فيها، ستقول ربما هم بلا أخلاق أي المعنيون بالاختيار كما قال المفكر العظيم عبدالوهاب المسيري في نقده للحداثة والتنوير، إذ كيف تصبح الشخصية التي رسمها كامو في هذه الرواية مثالاً لتتسيد كأفضل الروايات في القرن العشرين؟
ليست المشكلة في المعنيون باختيار الأفضل ولكن هناك مناهج للأدب والفن بشكل عام، ليست المسألة اعتباطية، بنية الرواية هي ما جعلها تتفوق واختيارها تم بناءً على معيارها الجمالي، لا عن الأخلاق التي تُظهرها.
إن مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة شهدت البشرية بزوغ ثورات ثقافية وفنية وطفرات عجيبة غيّرت مفاهيم الجمال، فالسيريالية مثلاً كأنها تريد ترتيب العالم من جديد فتجد لوحة حمار يطير وغيرها من الرسومات اللا واقعية أو النصوص السردية اللا واقعية مثل كتابات الكاتب التشيكي العظيم فرانز كافكا.
أما عن الأخلاق فالأخلاق نسبية تأطرها الأزمنة والأمكنة، فلو كنت عربياً محافظاً لن تروقك التماثيل اليونانية والرومانية القديمة إذا زرت يوماً مدينة روما أو أثينا اليونانية ومع ذلك يتم تقديس هذه التماثيل عند مجتمعات أخرى، والعكس صحيح.
وعن الآيديلوجيا فقد يكون أكبر أعداء الفن الأيدولوجيا عندما تجعله محصوراً في غاياتها الحياتية، استطاعت الفنون أن تقول للوجود أنا هنا لذاتي فالفن للفن، حتى وإن استخدمت بعض الأيديلوجيات – حتى تلك المتطرفة – الفن في إيصال رسالتها فالفن هو ما يعطيها عُمقاً إنسانياً وهوية إذا ما جرّدنا أنفسنا من لعب دور المحكمة تجاه أي فن، مثلما للأديان فنّها العريق الغنائي والموسيقي والرقصي ق
فجميعها تمثل عمقاً إنسانياً وإرثاً حضارياً وهوية، يمكن القول أن الفن هو الذي يحفظ هذه التوجهات، ولأنك بشر لا يمكن أن تكون عديم التوجه والفكر.
إن الفن أحد الدعائم الرئيسية لحفظ التراث الإنساني، ولكن الفن للفن، والأفكار والتوجهات حين تشهد طفرة فنية فأنها تعمل على تحصين نفسها من الإنفلات.
وأخيراً لا تحاكموا الفنان أخلاقياً وفكرياً وعلمياً ومنطقياً على فنه، دعوه يكتب.. يغني.. يلحن.. يُعمّر.. يعزف.. يرسم … كما يلهمه خياله.