اخبار عربية ودولية

ماذا تعرف عن الجزيرة اليونانية التي تبحث عن سكان يعمرونها؟

نداء حضرموت – bbc

من على متن السفينة التي أقلتني إلى أنتيكيثيرا، بدت لي هذه الجزيرة اليونانية كأنها حفنة من الجلاميد الصخرية القاحلة، التي أُلقيت في بحر إيجة. وخلال اقترابنا من البر في حوالي الساعة الرابعة والنصف من فجر أحد أيام يونيو/حزيران، قالت لي رفيقة الرحلة الباحثة ماريا سيتشلا: “حضّر نفسك، لأن تنغمس تماما في لون أزرق سيحيط بك من كل مكان”.

وأردفت بالقول: “كما أن عليك التيقن دائما من أن باب غرفتك موصد، فالماعز هنا تحب دخول المنازل دون أن يدعوها أحد”.

هدف زيارة سيتشلا إلى هذه الجزيرة النائية علمي بحت؛ إذ أنها باحثة في مجال المناخ في مشروع “مرصد أنتيكيثيرا الهيليني الجيوفيزيائي” المعروف اختصارا بـ “باناجيا”، وهو اسم “قارة عملاقة”، كانت موجودة على سطح الأرض قبل 360 مليون عام تقريبا.

ويستهدف هذا المشروع الطموح، الذي أُطْلِقَ عام 2017، اجتذاب العلماء من شتى أنحاء المعمورة، لزيارة هذه الجزيرة اليونانية الجرداء، وذلك في مسعى لحشد تجمع علمي عالمي، يعمل على محاربة ظاهرة التغير المناخي.

وبينما كانت السفينة ترسو في خليج بوتاموس الدائري الصغير، الذي يشكل – فعليا – ميناء الجزيرة، كان بوسعي أن أرى مجموعة من الأشخاص يتجمعون أمام عدد من المنازل بيضاء اللون، مختلطة الطرز المعمارية. في تلك اللحظة، شرحت لي إليني مارينو، وهي باحثة أخرى تعمل في المشروع نفسه، أن ما أراه هو قرية تحمل اسم بوتاموس أيضا “يعيش فيها غالبية السكان الموجودين هنا. أما باقي أنحاء الجزيرة فغير أهل بالسكان”.

سألتها عندئذ: “هل جاء كل هؤلاء الناس لتحية الزوار الجدد للجزيرة في الرابعة والنصف فجرا؟” لترد عليّ قائلة: “هنا يمثل وصول كل سفينة مهرجانا صغيرا”.

ولا يبدو ذلك مستغربا، في ضوء أن عدد المقيمين بشكل دائم في الجزيرة لا يزيد على 22 شخصا. لكن هذا الطابع المقفر الذي يسودها، ربما يتغير قريبا في ضوء الخطة الكبرى التي يتبناها مشروع “باناجيا”، لتحويل هذه البقعة إلى محطة عملاقة لدراسات المناخ حول العالم.

في البداية، يتعين علينا الإشارة إلى أن أنتيكيثيرا تتمتع بموقع جيوستراتيجي فريد من نوعه، في ضوء أن وقوعها بين جزيرتيْ كريت وكيثيرا، يجعلها تقبع عند نقطة التقاء ثلاثة بحار، هي بحريْ إيجة وكريت والبحر الأيوني.

وربما يجدر بنا هنا الاستعانة برأي فاسيليس أميرديس الباحث في مجال المناخ، والمسؤول عن الأبحاث في المرصد الوطني بالعاصمة اليونانية أثينا، وهو كذلك رئيس اللجنة العلمية في “باناجيا”، إذ يقول إن “أنتيكيثيرا تقع في مفترق طرق كتل هوائية قادمة من كل قارات العالم”، ما يعني أن أجواءها تشهد التقاء كميات من الهواء الآتي من كل القارات، بما تحمله في طياتها من درجات حرارة ومعدلات رطوبة، تخص الأماكن التي جاءت منها.

ومن شأن ذلك جعل تلك الجزيرة “بوتقة لانصهار أحوال الطقس والظواهر الجوية”، كما يقول أميرديس. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد في هذا المكان تلوث ضوئي، ما يتيح للعلماء الفرصة لمراقبة السماء بيسر ووضوح.

ويضرب هذا الباحث مثالا على تنوع ظواهر الطقس، التي يمكن أن تشهدها في أنتيكيثيرا بالقول، إن بمقدور المرء أن يجد هناك غبارا قادما من منطقة الصحراء الكبرى، ورمادا خلفته حرائق الغابات في كندا، وكذلك موادّ ناجمة عن النشاط البركاني لجبل إتنا، أحد أكبر البراكين النشطة حاليا في أوروبا.

ففي 28 أغسطس/آب 2018 مثلا، رصد الباحثون العاملون في مشروع “باناجيا” كميات كبيرة من جزئيات الرماد، التي اندفعت إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي، بفعل حرائق غابات استعرت في كندا قبل أسابيع من ذلك، وظلت سارية في الهواء لمدة 15 يوما، قبل أن تصل إلى أنتيكيثيرا.

ويقول أميرديس إن اتصاف الجزيرة بهذه الميزة يكتسي بأهمية قصوى، لأن وجود بقعة يتجمع فيها الغبار من أماكن مختلفة، يمكن أن يمنح الباحثين الفرصة لمعرفة “أمور عظيمة، بشأن عمليات تنقل الغبار”. ويشير إلى أن ذلك ربما يساعدنا كذلك على فهم الظواهر الجوية المتطرفة، واستحداث نظم إنذار مبكرة لها، فضلا عن أنه يجعلنا أيضا أكثر قدرة، على أن نتوقع بشكل أفضل، التأثيرات التي يُخلّفها التغير المناخي على الطقس.

ويضيف الباحث بالقول إن الجزيرة تشكل “المختبر الطبيعي المثالي، لدراسة كيف يمكن أن تتشكل السحب من الهباء الجوي (الذي يتمثل في جسيمات دقيقة مثل الغبار والأبخرة والضباب من تلك التي تظل عالقة في الهواء)، وهي ظاهرة رئيسية على صعيد إمكانية فهم التغير المناخي ووضع حد له كذلك”.

وقد تلقى مشروع “باناجيا” مؤخرا تمويلا من الاتحاد الأوروبي، تبلغ قيمته 25 مليون دولار أمريكي. وتفيد هذه الأموال الفريق العامل في المشروع حاليا، والذي يتألف من نحو 30 عالما غالبيتهم من المهندسين وعلماء الفيزياء، في نصب أجهزة وأدوات تقنية متطورة للغاية على الجزيرة، لا سيما وأن افتراضاتهم بشأن جسيمات الغبار العالقة في الهواء، تخالف الجانب الأكبر من النظريات التي تجمع عليها الغالبية العظمى من العلماء في هذا الشأن.

ويشرح أميرديس هذا الأمر بالقول: “المفاهيم السائدة حاليا، تفيد بأن جسيمات الغبار تأخذ اتجاهاتها عشوائيا في الغلاف الجوي، لكننا نحن نقول إن هذه الجسيمات، ربما تصطف في الهواء بشكل عمودي”. وإذا تبين أن هذه النظرية صحيحة، وهو ما ينبغي أن يحدده العلماء خلال نحو عام من الآن، فقد يكون علينا أن نعيد النظر في كل شيء نعرفه عن التغير المناخي. فـ “اصطفاف جسيمات الغبار عموديا، يسمح بأن يزيد مقدار الإشعاع الذي يتسلل عبر الغلاف الجوي ويصل إلى الأرض، بنسبة تتراوح ما بين 10 و20 في المئة”.

ويشير أميرديس إلى أن ازدياد قدر الإشعاع الواصل إلى كوكبنا، يعني أنه قد يصبح أكثر دفئا.

وفي الوقت الحاضر، تعكف فرق من الباحثين التابعين للمشروع، على زيارة الجزيرة اليونانية النائية، بمعدل مرة واحدة شهريا، وذلك في صورة مجموعات تتألف كل منها من خمسة علماء. لكن القائمين على المشروع يخططون لأن تقيم مجموعات من الباحثين متعددي الجنسيات في تلك البقعة لفترات طويلة من الزمن، في نُزل يتم تشييدها بمواصفات ملائمة لأنشطتهم العلمية والبحثية.

وسيكون بوسع هؤلاء العلماء، قضاء وقت فراغهم، في التجوال في المساحة المحدودة المأهولة بالسكان في أنتيكيثيرا، والتي لا تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا من أصل 22 كيلومترا مربعا تتألف منها الجزيرة. لكن قد يصاب أولئك الباحثون بخيبة الأمل قليلا، فلا محال لبيع الثياب في هذه المنطقة، أو محطات وقود أو مخابز. ولا تحتوي أنتيكيثيرا إلا على حانتين؛ إحداهما تعمل كسوبر ماركت صغير ومكتب للبريد أيضا. فضلا عن ذلك، يتسم السكان المقيمون بصفة دائمة في هذه البقعة بكبر السن، إلى حد أن عددا محدودا للغاية منهم، يقل في العمر عن 65 عاما.

وفي عام 2019، أفادت وسائل إعلام بأن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، عرضت دفع أموال لحض الناس على الانتقال للعيش في هذه الجزيرة غير المأهولة تقريبا. لكن القاطنين هنا قالوا لي إنه تم التخلي عن هذه الفكرة، حتى قبل تطبيقها، وأنهم لا يعلمون السبب في ذلك. وفي الفترة الحالية، يأمل السكان القليلون المتبقون في أنتيكيثيرا، في أن يؤدي تدفق الباحثين والعلماء عليها، إلى أن تتبدل أحوال جزيرتهم لتصبح عامرة بقاطنيها.

وقالت لي واحدة من السكان، إن مشروع “باناجيا، سيغير جزيرتنا. ابذلوا قصارى جهودكم من فضلكم، لمساعدة جزيرتنا الجميلة”. وأكدت لي أخرى أنها تحب هؤلاء “الفيزيائيين” كما لو كانوا أطفالها. وبوجه عام، يحتفي سكان الجزيرة بوصول العلماء إلى أراضيها، وكأنه حدث يضخ دماء جديدة في شرايينها.

على أي حال، من غير المحتمل على ما يبدو، أن يكون لـ “أنتيكيثيرا” ماض براق يمكن أن يشكل مصدر فخر شديد، لسكانها الذين تربط بينهم وشائج قوية. وينحدر هؤلاء السكان من سلالة أهل كريت المتغطرسين، الذين ثاروا ضد الأتراك خلال فترة الاحتلال العثماني لليونان، ثم تركوا بعد ذلك كريت واستقروا في أنتيكيثيرا.

لكن تاريخ الجزيرة لا يخلو من لحظات باهرة كذلك. فقد شهدت أراضيها، ظهور آلة ميكانيكية إغريقية رائعة، حملت اسم “آلية أنتيكيثيرا”، طالما استُخْدِمَت لحساب المعلومات الخاصة بالظواهر الفلكية في عام 100 قبل الميلاد، وعرض هذه البيانات كذلك. وقد تم انتشال تلك الآلة في عام 1901، من المياه المقابلة لسواحل الجزيرة، وذلك من داخل حطام سفينة تجارية، كانت قد غرقت هناك في القرن الأول قبل الميلاد.

ومن هنا يبدو من المنطقي للغاية، أن نعلم أن الجزيرة التي انتشلت أقدم كمبيوتر في العالم قبل أكثر من قرن من الزمان، تنتفع الآن بعقول بعض من ألمع العقول على وجه الأرض، للمساعدة على قطع أشواط جديدة، على طريق محاربة التغير المناخي.

وقد تذكرت هذا الإرث العظيم للجزيرة، عندما توجهت في يوم وصولي لها، إلى المرصد الخاص بالتغير المناخي المقام على أراضيها، وبصحبتي الباحثتان سيتشلا ومارينو، جنبا إلى جنب مع سبيروس متالينوس المسؤول عن تشغيل المرصد، وإيونا مافروبوليو، الموظفة الإدارية التي تساعد في الأبحاث التي يجريها هذا المركز العلمي.

ويطل هذا المرصد على جزيرة أنتيكيثيرا، من على ارتفاع يُقدر بـ 193 مترا، ويقبع في منطقة كاتسانفيينا المعزولة، الواقعة على بعد نحو أربعة كيلومترات إلى الجنوب من قرية بوتاموس. وللوصول إلى هذا المكان، كان علينا أن نسلك مسارات وطرقا متعرجة، أتاحت لنا الفرصة لرؤية بعض المناظر الخلابة، التي زادتها المياه الصافية، التي تطل عليها الجزيرة، جمالا.

وخلال رحلة الصعود، شاهدت كبشا من نوع “كباش الجبال الصخرية” كبيرة القرون، وهو مغطى بالصوف بشكل كامل، وهي الحيوانات التي يعيش الآلاف منها على هذه الجزيرة. وكان هذا الكبش، وهو بري على الأرجح، يقف وقتذاك على حافة وادٍ شديد الانحدار.

وعندما وصلنا أخيرا إلى المرصد، بوغت بمدى الاختلاف، بين ما يوجد فيه وما تراه في الجزيرة خارجه. فبجوار أحد الهوائيات الضخمة، رأيت حاوية ذات لونيْن أبيض ورمادي، يوجد فيها جهاز يستخدم أشعة الليزر لقياس حركة جسيمات الغبار الدقيقة العالقة في الهواء، وأيضا حركة بخار الماء والسحب في الغلاف الجوي، ويرسل البيانات الخاصة بذلك إلى المرصد الوطني في أثينا، من أجل تحليلها.

وعندما حل الظلام في وقت لاحق، أصابني الانبهار الشديد، بعدما شَهِدت بعينيْ رأسي ما يفعله هذا الجهاز المتطور، إذ انطلق منه شعاع إلكتروني أخضر اللون صوب السماء، ليبدو كما لو كان دَرَجا سحريا يمكن أن يصل المرء عبره إلى المجرات المتلألئة في الليل الحالك.

وإلى يمين هذا الجهاز المتطور، وُضِعَ مقياس للضوء ذهبي اللون، يتحرك بشكل متوافق تماما مع حركة الشمس، لقياس كمية الإشعاع الكهرومغناطيسي الواصل منها إلى الأرض، وإرسال البيانات المتعلقة بذلك فيما بعد، إلى وكالة ناسا. وغير بعيد عن هذا المكان، توجد قبة رائعة بيضاء اللون، تحتوي على أداة تُعرف بـ “مقياس الاستقطاب”. وتتبع هذه الأداة، دورة الشمس في السماء، وتتولى قياس اتجاه الغبار في الغلاف الجوي.

وبينما كانت سيتشلا ومافروبوليو تحدقان من خلال التليسكوب الخاص بمقياس الاستقطاب، وجهت بصري إلى الأمام، لأنظر إلى الأطراف الشمالية الغربية لجزيرة كريت الواقعة على مسافة مني ويلفها الضباب. وكنت أبحث في تلك اللحظة عن النقطة، التي تلتقي فيها البحار الثلاثة حول أنتيكيثيرا.

ويخطط القائمون على مشروع “باناجيا” لوضع ما يصل إلى 40 جهازا متطورا على أراضيها، خلال السنوات الثلاث المقبلة. وستشمل هذه الأجهزة، منظومات رادار لمراقبة الغيوم، وذلك لمساعدتنا على فهم الكيفية التي تعكس بها السحب أشعة الشمس وتستبقي الأشعة تحت الحمراء. كما ستتضمن مناظير طيف متقدمة لقياس كمية الغازات المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، بدقة وبشكل متكرر، وكذلك منظومات متطورة لقياس كيف يؤدي التغير المناخي، إلى الإبطاء من سرعة الرياح التي تهب على سطح الأرض، وغير ذلك كثير.

وبعدما أتم علماء المناخ تفقد أجهزتهم، عدنا أدراجنا إلى بوتاموس. حينذاك قالت لي مارينو، إننا مدعوون لحضور احتفال سيقام في إحدى حانتيْ الجزيرة، لمناسبة تخص قديس يُعتقد بأنه شفيع هذه البقعة من العالم. وأشارت، وهي مفعمة بالحماسة، إلى أننا سنستمتع خلال الاحتفال، بعزف حي على آلة وترية يونانية شهيرة، وأنه قد تسنح لنا الفرصة كذلك لاحتساء الـ “تسيبورو”، وهو براندي يوناني قوي. وأضافت الباحثة أنه سيكون بوسعنا قبل ذلك، احتساء فنجان من القهوة اليونانية، في الحانة الأخرى.

وهكذا بدا لي أنها وباقي العلماء المشاركين في مشروع “باناجيا” يتعاملون ببراعة مع شتى أنواع الصعاب، التي تكتنف الحياة في هذه الجزيرة الوعرة، التي تعصف بها الرياح. وعما قريب، من المأمول أن يكون بمقدور المزيد من الباحثين في مجال المناخ في العالم، التواصل مع مراكز الابحاث التابعة لوكالة ناسا في الصباح، واحتساء الـ “تسيبورو” مع سكان أنتيكيثيرا في المساء.

فرغم كل شيء، قد تكون هذه الجزيرة الصغيرة مختلفة بقدر هائل للغاية عن “باناجيا”؛ تلك القارة العملاقة التي كانت قائمة على وجه الأرض، قبل مئات الملايين من السنوات وأصبح اسمها الآن علما على مشروع بحثي طموح. لكن هذا الاختلاف لا يمنع أنتيكيثيرا من أن تواصل الاضطلاع بدور في توسيع آفاق العلم؛ هذه المرة عن طريق كتابة فصل جديد في سِفر الحرب ضد ظاهرة التغير المناخي.

إلى الأعلى