كتب – د.ياسين سعيد نعمان.
يتسلل الحوثي عبر أحداث شبوة وغيرها ليرمي شباكه ، متخبطاً ، كصياد عجوز لم يعد يستطيع الإصطياد إلا في المياه الضحلة .. يبحث عن سمكة تائهة هنا أو هناك ، أو أخرى انقشع عنها ماء المد فراحت تتخبط مستسلمة لقدرها : الموت أو شبكة الصياد العجوز .
ما يفتش عنه الحوثي لن يجده في المكان الذي يكون فيه حب الوطن عند الجميع بعمق المحيط ، وحب الحياة برائحة الاستشهاد ؛ سيحتاج إلى ما هو أكثر حجة ، وإلى من هو أكثر قدرة على فهم هذا الحب من ثرثرة قادته وغمغمتهم .
بدايةً ، لا بد من الإشارة إلى أن أحداث شبوة هي جزء من ميراث سياسي صنعه حكام اليمن الجمهوريون ، وزعاماته ، ومتنفذيه الذين تحوصلوا بقوة نفوذهم في أهم مفاصله الاقتصادية والعسكرية والسياسية ، على مدى عقود طويلة . وأصبح بيدهم الخروج منه .
بالطبع ، لا يمكن تجاهل الميراث الذي تكثفت فيه عهود الحكم الإمامي و الاستعماري ، والذي آل إلى العهد الجمهوري الجديد بكل مشاكله وتعقيداته وعفنه .. إلا أن ما يجعلنا نتوقف عند ميراث “الجمهوريين”، هو أن الأمل الذي كان معقوداً عليهم في الانتقال باليمن إلى طور جديد من الحياة الحرة والكريمة قد اصطدم بحقيقة أنهم ، عوضاً عن ذلك ، راحوا يصنعون ميراثاً سياسياً صِدَامياً ، والذي أخذ يشكل الحياة السياسية بلونه ، ويعيد إنتاجها من داخل المخابئ التي ترسب فيها في صور مختلفة من الوعي المشوه أو المشدود إلى عصبيات متصادمة ، والمصالح المتنافرة ، والثأرات المرحلة من صراعات متكررة .
وحينما تعرض البلد لخيانة المشروع العنصري الطائفي ، الذي اختبأ داخل الميراث الجمهوري ، بالانقلاب الحوثي المدعوم ايرانياً على شرعية الدولة والتوافق السياسي الوطني ، صار هذا الميراث معوقاً رئيسياً أمام اليمنيين في توحيد قواهم لمواجهة هذا الانقلاب الذي لم يكن مجرد انقلاب عسكري-سياسي بقدر ما شكل التحدي الوجودي لمستقبل البلاد .
ومع الأيام ، ومع تزايد حدة المواجهات ، أخذت تداعياته تصنع الألغام التي راحت تنفجر في وجه أي محاولة للتقارب ، وتنسف ما تبقى من جسور الثقة بين أطراف الحياة السياسية .
ومع المزيد من ضغوط الأداء السياسي الرديء ، انقسمت القوى السياسية على نفسها ، رأسياً وأفقياً ، في مشاهد كثيرة من التشظي الداخلي ، بعد أن تولى المنتصر في معارك كسر العظم المختلفة مصادرة المهزوم في متواليات تكررت على أكثر من صعيد وأكثر من وجه .
استهلكت مخرجات هذا الميراث الكثير من الجهد ، وبددت الكثير من الوقت ، وكان “الحوثي” هو المستفيد الأول منه ، ولا زال يواصل الاستفادة منه بإغراق البلد في الدم ، وبتكريس مشروعه الطائفي ، وتتويه الناس بمثل هذه الثرثرة التي تطلقها قيادات ما برحت تقوم بدور العكفي ، وأخرى معجونة بالعنصرية وفهلوة خطابها في محاولة تبليط الهواء بكلام أقل ما يقال عنه إنه فارغ .
اليمنيون اليوم أمام خيار واحد ، إذا ما أرادوا أن يتفرغوا لاسترداد دولتهم واستعادة كرامتهم المنهوبة .. أي باختصار التخلص من هذا الميراث . ذلك هو ميراث استخدام القوة والعنف وسفك الدم في حل الخلافات السياسية .
السياسة التي تلجأ إلى رفع السكين ، هي سياسة لا تمتلك أي دليل على مشروعية استمرارها .. فبمجرد أن ترفع السكين في وجه الآخر تفقد مشروعيتها .
ميراث يحمله البعض كأيقونة يزين بها تاريخه ، ويرفعه آخرون كقنبلة يشهرها في وجه غيره . لم تجر سوى محاولات مرتبكة ، ومترددة لإعادة بناء الوعي السياسي من خلال نقد هذا الميراث نقداً بنّاءً ، لتكون هذه أول خطوة على طريق الخلاص .
وعلى هذا الطريق ، كان من المهم أن تتشكل “كتلة التحدي” القادرة على إطلاق المبادرة والسير بها إلى النهاية . تحدث الكثيرون وفي مناسبات مختلفة عن الكتلة التاريخية ، وجرت محاولات ، ومع كل محاولة كانت تنشأ عوامل مضادة ، من خارج ومن داخل المحاولة ، تعيق مشوارها ، واليوم دعونا نتفق على أن “التوافق الوطني” الذي يعمل على قيادة المعركة في الوقت الراهن من داخل مدينة عدن التاريخية ، بكل ما يرافق ذلك من مصاعب ، هو “كتلة التحدي” تلك ، والتي سيتعين عليها أن تستفيد من كل التجارب السابقة . على أن الميراث السياسي الذي ينتصب أمامها ازداد حمولة وتعقيداً ، وهو ما يطرح عليها أهمية أن تستعين على ذلك بالالتحام بالناس ، وأن تتفاعل مع تعبيرات الرفض والسخط عند المواطنين البسطاء على نحو مباشر وبدون وسيط ، وأن تترك جانباً اللغط الذي يثار كترف سياسي بعيداً عن أصل المشكلة ، كما يجب أن لا تذهب بقرارتها في الاتجاهات التي تحاصرها في شراك التقاسم والمحاصصة ، أو تلبية الاحتياجات الخاصة .
تعبيرات السخط والرفض عند البسطاء تعكس الإحباطات التي غلفت حياتهم حينما لا يرون نهاية للبؤس الذي يعيشونه ..؟لكن سخط هؤلاء البسطاء من الممكن أن يتحول إلى قوة حقيقية في المعركة إذا ما تم الاقتراب منه لمعالجة أسبابه .
المهم هو أن لا تترك هذه الاحباطات مطّية لكل من يريد أن يتسلق عليها لتحقيق أهدافه الخاصة .. يجب أن تتحول إلى قوة مادية تؤمن ل “كتلة التحدي” الطريق نحو الحقيقة التي ستقود إلى الخروج من المأزق .
من المهم استيعاب آلام الناس بمنطق مختلف ، تتغير معه أساليب التعاطي اللئيمة مع المشكلات المكدسة في رحم الموروث الذي يرتحل معنا كما يرتحل الدم في شرايين الجسم .
من هنا يبدأ تعبيد المسار المفضي إلى اقتلاع هذا الموروث الذي لم يترك خيارات للتفاهم غير العنف ، والتسفيه ، وسلوك الطريق المكتظ بمطبات التآمر ،والتربية السياسية والايديولوجية الغلط التي عطلت أجيالاً بأكملها بعد تحنيطهم بكراهية الآخر والتحريض عليه . ولم تعلمهم سوى الكراهية ، والشتم ، والنوم عند آخر حرف من الشتيمة .
ثقافة رضعت من هذا الميراث وأرضعته ، وحنّطت السياسة في التعصب ، والهنجمة ، والتحريض على القتل ، والتزلف ، وتشويه الآخر ، واشعال الفتن ، وأكثرها سخرية وبؤساً أن يرتقي “المثقف” بثقافته إلى المستوى الذي يجيد فيه استخدام إسم نويصر لتشويه نصير ، ليس حباً لنويصر وإنما كرهاً لنصير .. ثقافة مندّسة ، لا تعبر سوى عن حالة الضياع التي يعيشها أولئك الذين تكولسوا في حارات ضيقة ، لا يرون بين جداراتها سوى ظلالهم الشاحبة التي تعكس الواقع الحقيقي للبؤس السياسي والمعرفي الذي بات جزءاً من الواقع السياسي ، والذي لا يشكل بالنتيجة البيئة المناسبة لمعركة التحرير .
الجميع يتحرك في النتائج بعيداً عن الأسباب التي يعاد إنتاجها من داخل هذا الميراث الملغوم . لم يثبت مطلقاً أن التحرك في النتائج قد أفضى إلى حل أي مشكلة !! بالعكس كان ذلك سبباً في تعقيد الحل عدى الدوام ، عدا الحالات التي يتم فيها تتبع جذر النتيجة باهتمام بحثاً عن الأسباب ، وهذا ما لم يُسمح به في الفكر السياسي اليمني حتى اليوم على نحو مستقل عما تحاول تكريسه البرامج الإعلامية المخصصة لمواصلة تعميق الانقسامات في الجسم السياسي اليمني .
لماذا يتم تجاهل هذا الميراث الذي يعتبر ، بما تخلقت فيه من نزعات وانقسامات وتحديات ، حاضناً لكل ظاهرة تتعثر بها المعركة الرئيسية ، وتفقد زخمها وتستنزف قواها ، وتمد المليشيات الانقلابية بمزيد من الاسباب للتخندق وإقامة المتارس .
ليس صعباً أن نجد إجابة على هذا السؤال حينما نكتشف ، كما قلنا سابقاً ، أن هناك من يصر على حمل هذا الميراث كأيقونة يزين بها تاريخه المفرغ من أي منجزات سوى ما حققه من نصر صغير في معركة عسكرية ، أو أن هناك من يرفعه كقنبلة في وجه الآخرين انتظاراً لثأر من هزيمة في معركة أخرى .
وطالما أن النقد الموضوعي هو الذي يمكن أن يعيد رسم خارطة هذا الميراث السياسي في صلته بالفاعلين فيه ، فإن ذلك هو آخر ما يمكن أن يفكر فيه جميع الفاعلين في المشهد السياسي ، بحيث يظل كل طرف متمسك بروايته ويدافع عن حصته في هذا الميراث ويوظفه ، كما قلنا كأيقونة أو كقنبلة ، ليستمر مسلسل الصراعات الدامية في إنتاج وإعادة إنتاج الأسباب التي تواصل تشويه المشهد وارباك معادلاته .
لم يسفر هذا الميراث فقط عن تعقيدات المشهد السياسي ، كما نراها اليوم ، بل فتح نفقاً الى “السقيفة” ومنها إلى “الفتنة” و”التحكيم” و”كربلاء” ، واللهث في المساحة بين بيتي عبد مناف القرشي المترعة بالعداوات ، ليتسلل منه شذاذ الآفاق الباحثون عن “الحق الالهي المسلوب” ، ليضع اليمنيين أمام تحديات وجودية .
من المفارقات التي تتشكل بها مسارات التاريخ هو أنه كان من الممكن أن تساهم هذه التحديات الوجودية في الخروج من مأزق هذا الميراث بأن يجعل منها اليمنيون نقطة تعريف بالمخاطر التي تهدد حياتهم واستقرارهم ، والاتفاق من ثم على أن مستقبلهم بعيداً عن تهويمات الخرافة التي يُقتلون بها حتى اليوم ، ومعها مدخلات هذا الميراث السياسي الذي أضعف قدرتهم على مواجهة هذه الخرافة وما يرافقها من تحديات سياسية وأمنية وثقافية ومعيشية ، تشكل بمجملها الأخذ بأحد الخيارين : إما أن نكون أو لا نكون .
الان وقد تم تفعيل هيئة التشاور والمصالحة لا أدري ما إذا كانت أجندا الهيئة ستتسع لموضوع كهذا ، وعلى النحو الذي يجعل من مغادرة هذا الميراث الحلقة الرئيسية التي تدور في فلكها قضايا التشاور ، ووضع قواعد لتفاهمات سياسية تضع الجميع أمام مسئولياتهم الوطنية متجاوزين كل ما يتعارض مع هذه المسئولية .. ويا ترى من من شركاء المشهد بلا خطيئة !!