كتب / د. عيدروس نصر النقيب
ثلاثة مبعوثين أممين إلى اليمن استطاعوا إيصال البلاد إلى أسوأ درجات المعايير الدولية بجميع المقاييس المتعلقة بانعدام الحوكمة والفقر والفساد ومتوسط دخل الفرد ومعدل البطالة ومخاطر المجاعة والأوبئة والحريات العامة وحقوق الإنسان والمستوى التعليمي وخدمات التطبيب والنظافة والوضع البيئي وكل ما عداها من المعايير، ولا أدري إلى أين سيوصلها المبعوث الرابع.
عندما جاء السيد جمال بن عمر كأول مبعوث للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن كانت البلاد قد شهدت نقل السلطة إلى الرئيس الانتقالي المشير عبد ربه منصور هادي، وشكلت حكومة توافق وطني برئاسة المناضل المعروف الأستاذ محمد سالم با سندوة، (وإن لم تعرف الحكومة التوافق قط) ومع كل الزوابع الإعلامية والصخب الدعائي وما سمي بـ”مؤتمر الحوار الوطني” المخيب للآمال، نجح السيد بن عمر في إيصال الجماعة الحوثية إلى قصر الستين في العاصمة صنعاء وإكراه القوى السياسية على توقيع ما سمي بــ”اتفاق السلم والشراكة” الذي مهد لجعل الجماعة الحوثية سلطة الأمر الواقع في العاصمة اليمنية صنعاء.
فشل السيد اسماعيل ولد الشيخ في إعادة تسليم عدن وحضرموت للحوثيين بسبب المقاومة غير المتوقعة التي أبداها الشعب الجنوبي في هزيمة المشروعين الحوثي والداعشي في الجنوب، ونجح المبعوث الثالث السيد مارتين جريفيت في إفشال استعادة مدينة الحديدة بمطارها ومينائيها إلى أيدي الشرعية من خلال ما عرف بـ”اتفاق ستوكهولم” الذي أبقى سيطرة الحوثيين على المحافظة لتعيد تموضع قواها وتسيطر على محافظات البيضاء ومأرب والجوف، وينتظر الناس ماذا سينجز المبعوث الرابع من تدمير لما تبقى إن تبقى شيئٌ لم يتعرض للتدمير.
مشكلة المبعوثين الأمميين (في الكثير من النزاعات الإقليمية والدولية) ومنها الأزمة اليمنية، تكمن في أنهم يتعاملون مع صورة مثلى مرسومة في رؤوسهم مبنية إما على معطيات مغلوطة بنتها جهات لها مصلحة في عدم حل المشكلة والحفاظ إبقاء عوامل الحروب قابلة للاشتعال كلما دعت الضرورة، أو تصورات ناقصة تشكلت في الذهن بناء على معلومات مبتورة أو على إملاءات القوى العظمى التي لا تأبه لمصائر وعذابات الشعوب طالما لم تتعرض مصالحها للضرر بسبب تلك الحروب، لينتهي الأمر بالفشل فيأتي المبعوث الجديد ليبدأ من حيث بدأ المبعوث السابق وليس من حيث انتهى.
فهل سيمضي المبعوث الجديد للأمم المتحدة إلى اليمن السيد هانس جرودنبيرج على نفس الطريق الذي سار عليه أسلافه أم إنه سيدرس الوقائع القائمة على الأرض وينطلق منها وهو يخطط لحل المشكلة الأساسية بعيداً عن ضغوط أصحاب المصالح، والخطط الخفية لمستثمري الحروب وتجارها؟
يا سيادة المبعوث الأممي!!
الوقائع على الأرض تقول أن هناك وضعين متمايزين في أراضي الدولتين السابقتين في اليمن، تلك التي كان اسمها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والأخرى التي كان اسمها الجمهورية العربية اليمنية، والتين اتحدتا طوعيا ثم دخلتا في حرب غير متكافئة أدت إلى هزيمة الأولى واجتياح أراضيها من قبل الثانية وما تلى ذلك من تداعيات السلب والنهب والظلم والإقصاء والتهميش والاجتثاث التي تلي عادةً كل حروب الغزو والعدوان والاحتلال.
ويكفي أن نشير إلى أنه في الشمال (الجمهورية العربية اليمنية سابقاً) هناك نزاع بين طرفين شماليين على من يكون صاحب المشروعية، وهذا النزاع يمكن حله بطرق سلمية وقانونية باستخدام مختلف الوسائل المتبعة في حل النزاعات الوطنية المحلية المشابهة.
وفي الجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة) هناك دولة تعرضت للغزو والتدمير وسحق كل معالمها وأركانها وشطب كل ما له صلة بالمدنية والحضارة والنظام والقانون، وفي مساحة هذه الدولة شعب يناضل منذ ثلاثة عقود من أجل استعادة دولته، بدأ نضاله بالوسائل السلمية وأجبره الأشقاء (الغزاة) على المواجهة المسلحة وتبلورت الأمور باتجاه إعادة تشكل معالم الدولة الجنوبية الجديدة.
إن أي محاولة لسبر أغوار الأزمة وتفرعاتها يجب أن تأخذ بالاعتبار هذه المعطيات المسكوت عنها والتي هرب المبعوثون السابقون من الإقرار بها ففشلوا في كل القضية، وإن أية محاولة للقفز على هذه المعطيات إنما ستذكرنا بمقولة عبقري القرن العشرين العظيم ألبرت آينشتاين التي تقول إن “الغباء هو أن تفعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وتنتظر نتائج مختلفة”، وقد قال أينشتاين مرتين فما بالنا بتكرار نفس الأمر ثلاث أو أربع مرات ومحاولة الحصول على نتائج مختلفة؟
إن المقولات التي دأب زملاؤك السابقون على التعاطي معها كمقولة “الحفاظ على وحدة اليمن واستقراره” هي مقولات لا تستقيم إلا على ظلم شعب الجنوب واستمرار احتلال أراضيه ونهب ثرواته، وهذه المقولة ونظيراتها لا تساهم في حل المشكلة بقدر ما تعيد تكريسها وستحبط أي جهود للوصول إلى تسوية قابلة للديمومة والحياة لأن تلك المقولة هي جذر المشكلة وسببها.
لست بحاجة إلى التنبيه إلى أن محاولة توحيد الدولتين السابقتين ـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية العربية اليمنية ـ قد فشلت يوم اجتياح الجنوب وتحويله من شريك في الدولة إلى أراضي محتلة لكنني أشير مرة أخرى إلى أن أي تجاهل لهذه الحقيقة إنما سيعني تكريس الاحتلال وحرمان الشعب الجنوبي من حقه في اختيار طريقه الحر وتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة على اراضيه المعروفة تاريخياً بحدود 21 مايو 1990م.
سيادة المبعوث الأممي!!
نذكر سيادتكم في الختام بأن الشعب الجنوبي يعاني من حرب خدمات وسياسات تجويع منذ سنوات فرضتها عليه سلطات “الشرعية المهاجرة” التي تنهب ثرواته وتستأثر بموارده وتسخر عائداتها لتحسين مستوى معيشة مسؤوليها ووزرائها ونوابها وسفرائها ويبقى المواطن الجنوبي بلا غذاء ولا دواء ولا ماء ولا كهرباء ولا وقود ولا خدمة طبية أو بلدية، مع استمرار السطو على مرتبات الموظفين الحكوميين من المدنيين والعسكريين ما يعني الحكم على 90% من مواطني الجنوب بالموت جوعاً.
فهل ستضعون هذه القضايا نصب أعينكم وأنتم تحاولون التعرف على جذور المشكلة في اليمن على طريق حالها النهائي؟
نأمل ذلك!!!